
في التاريخ منعرجات كثيرة ومطبات عديدة، يصعب تجاوزها بسهولة ولذلك على من يغوص في أعماق التاريخ أن يكون متقنا للسباحة الحضارية والثقافية، السباحة في بحار التاريخ والسباحة في بحار الواقع والسباحة في معطيات السّاحة المختلفة، فهناك مواقف قد تبني وأخرى قد تهدم وكلمات قد تحدّد مصائر شعوبها نحو الرقي ومواقف وكلمات قد تهوي بشعوبها إلى الحضيض.
ومن الصعب جدا أن نقرأ التاريخ بصوت عالٍ دون تحفظ ودون اختيار الألفاظ المناسبة للحال والمقام. وربما كان الأدب بمختلف مكوناته وجها آخر للتاريخ ولكن بصورة معدلة إلى حد ما، لا يحصي الوقائع والأحداث ولكنه يعيد إنتاجها في قالب فني مؤثر، ولعلّه هو ما يبقي التاريخ في ذاكرة الشعوب والأمم، ويحفر عميقا في ثقافتها، فالملاحم هي التي دوّنت تاريخ اليونان والإغريق أكثر مما دونه المؤرخون، وما أوثر من التاريخ العربي هو ما سجّله الشعر العربي وبقية الآدب الأخرى من حكمة ومثل سائر وخطبة مأثورة.
صحيح أنّ الأديب أو المبدع لا يكتب التاريخ بوقائعه وتواريخه منظمة ومرتبة، لكنّه يقف على أسرارها وملابساتها ودوافعها المختلفة ويسلّط الأضواء على كثير من مناطق الظلّ في التاريخ تغيب عن المؤرّخين، ولا يهتم لها السياسيون ورجال الحكم، وعلى المؤرخين ورجال الأدب والإبداع الحذر كلّ الحذر عندما يستدعون الوقائع التاريخية، فبعض التاريخ لا يحسن أن يدرس أو يذكر خارج سياق البحث العلمي وفي مخابر البحث المتخصّصة، فربّ واقعة تاريخية تذكر مجرّد ذكر قد تستدعي فتنة أو توقد نار البغضاء والأحقاد، وربّ رأي يعتقد صاحبه أنّه حقّ مطلق فإذا به مجرّد وجهة نظر، لا ينبغي التسليم بصوابيتها النهائية، وربّ قصيدة شعر أو نصّ أدبي يفتن به صاحبه، يحسن به أن يدفنه في التراب بدل أن يعرضه على النّاس فتطيش به العقول وتخطف الألباب ويظل فيه الحليم حيران، وقد تعلمنا من أبي هريرة رضي الله عنه قوله:”حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم”.
بقلم: عبد الله لالي