شهدت، أمس مكتبة الإحسان بولاية باتنة، ضمن تقاليدها العريقة في إحياء مناقب ومفكري ولاية باتنة، تنظيم جلسة تأبينية للمربي والمثقف الموسوعي المفكر “عبد العزيز شوحة” بحضور كوكبة من الأصدقاء وأساتذة وتلاميذ المرحوم، والذين قدموا عدة محطات حياتية شاركوا خلالها الحاضرين لفكر عبد العزيز شوحة الذي لم يستثمر بعد!.
بعاصمة الأوراس باتنة ولد عبد العزيز شوحة يوم 20 أفريل 1961، وهي مرحلة استثنائية كانت الجزائر تعيش خلالها أوج مطالبها التحررية من الاستعمار الفرنسي، تلك الثورة التي ألهمت شعوب العالم وأعطتهم درسا في الوطنية والتمسك بالقرآن الكريم الذي كان القوة الدافعة لصمودهم وثقتهم في النصر، وقد وجد عبد العزيز شوحة الرجل الوطني: “أن القرآن الكريم يعد أهم مشروع حضاري وجب العمل عليه”، وجعل من هذا المنحى الفكري مشروعه الحياتي.
ولعل أبرز الذين تأثروا بالثورة الجزائرية وأعلنوا اسلامهم وقرأ لهم عبد العزيز شوحة المفكر الألماني “مراد هوفمان” الذي عين ملحقا في السفارة الألمانية بالجزائر سنة 1961 ووجد نفسه وسط حرب عصابات دامية بين القوات الفرنسية وجبهة التحرير الوطني وأعلن اسلامه قائلا: “لقد شهدت صبر الشعب الجزائري وصموده في مواجهة المعاناة الشديدة، وانضباطهم العظيم خلال شهر رمضان، وثقتهم في النصر فضلا عن إنسانيتهم بالرغم من بؤسهم”. شعر الدكتور هوفمان أن دين الجزائريين هو ما كان يجعلهم صامدين أقوياء، ولذلك بدأ بدراسة كتابهم السماوي – القرآن الكريم – قال: “لم أتوقف يوما عن قراءة القرآن الكريم إلى يومي هذا”.
إن رحلة البحث والتقنيب لدى عبد العزيز شوحة كانت بداية مهمة جدا في مساره نحو التأمل في الوجود الإنساني والمعجزات الربانية من خلال القرآن الكريم، ساعدت الرجل في مسيرته معرفة إسلامية بالأصول والفروع والقيم الإسلامية، يتحدث شوحة عن مرحلة مفصلية في حياته أيام الثانوية، (السنة الثانية ثانوي) حيث كان يدرس الفلسفة على يد أستاذه محمود عيسي، ثمانية ساعات من الدراسة للفلسفة كانت كافية لأن تجعل عقله المتأمل المتدبر أثناء الصلاة يبحث عن إجابات حول وجود الله وإن كان الله من أنزل القرآن الكريم أم من صنع البشر انطلاقا من أقوال المفكرين الفلسفيين الذي قدموا أراء مخالفة للفطرة الإنسانية، يبدأ الرجل بدراسة كتب دينية أكاديمية تفوق مستواه الأكاديمي، وينهل منها ليجد ضالته التي ينقب عنها، فكان لكتاب “كبرى التقنيات الكونية” للدكتور الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي” أثر كبير في دراسته لعلوم الفقه والقرآن، يقول الدكتور عبد العزيز شوحة: “أحببت القرآن منذ أن دخلت مسجد العربي تبسي بحي بارك أفوراج، انزويت في زاوية منه لحفظ القرآن الكريم، متتبعا باحثا في مختلف التفاسير كتفسير ابن عطية وابن كثير وسيد قطب وكل ممن كتبوا عن الدين الاسلامي من فقهاء وعلماء من مختلف أنحاء العالم كوحيد الدين خان العالم الاسلامي الهندي ومالك بن نبي وبلقاسم حاج محمد وغيرهم ممن كانوا منارة لي في تاريخ البحث العتيد في ظل وكنف القرآن الكريم”.
يجد الشاب الذي انزوى وحيدا متأملا في المسجد، لذة إيمانية أخرى لم يعرفها أقرانه، يقول صديقه المقرب “يوسف ملاخسو”: “اجتمعت فيه الكثير من الخصال ما تفرق في غيره، وأكرمه الله عز وجل ليكون من حملة كتابه حفظا وتقديرا وتدبرا، في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات كنا نلتقي بمسجد العربي تبسي، كنا نحضر حلقات الحديث والفقه ومواعظ من رياض الصالحين، ذلك الشاب النحيف شوحة كان يتنحى في زاوية من زوايا المسجد لحفظ كتاب الله عز وجل وقراءة تفاسيره المتعددة والمتنوعة، وفي كل صيف كنا نجتمع عبر حلقات المدرسة الشرعية لقراءة علوم القرآن وعلم الحديث والعقيدة، تلك الصورة النمطية لا تزال راسخة في ذهني، أشهد أنه له نظرات عجيبة من ثمارها نهمه بالمطالعة وشغفه بالكتابة”.
يقدم النشاط الثقافي “محمد بن عبد الله فراح” صاحب مكتبة الاحسان مبادرة ثمينة ومهمة تمثلت في جمع رفقاء وأهل المرحوم عبد العزيز شوحة في تأبينية خاصة، كان ذلك في مقر المكتبة التي عجت بتفاصيل وذكريات مختلطة بمشاعر من البكاء والحنين لمواقف الرجل الكبير والمفكر الداعية لله عز وجل الدكتور عبد العزيز شوحة.
يتحدث الدكتور عبد الكريم عوفي الذي أشرف على رسالة الماجستير المعنونة “منهج ابن عطية في ضبط الألفاظ في تفسيره المحرر الوجيز” عن المسار التعليمي للمفكر عبد العزيز شوحة قائلا: “تلقى تعليمه بمختلف مراحله (الابتدائي، المتوسط بمدرسة ابن باديس والثانوي بمدرسة عباس لغرور) بولاية باتنة، حصل على الباكالوريا عام 1980، ثم تحصل على شهادة الليسانس في علوم اللغة سنة 1983، عمل بعد التخرج في التعليم كأستاذ في ثانوية عائشة مدرسا للعلوم الشرعية، بعدها أدى الخدمة الوطنية ثم عين بثانوية صلاح الدين، انتدب للإمامة والخطابة لمدة قصيرة في مسجد العتيق بتازولت حيث كان يقدم دروسه وخطبه ومواعظه بحضور جمع غفير من محبي دروسه، حيث كان يتوقع أن يعمل بأريحية، لكن وجد أن ذلك لا يستقيم معه لأنه أراد أن يجسد أحكام القرآن في سلوك المجتمع، فعاد إلى سلك التعليم، تحصل على شهادة الماجستير سنة 2004، وبعد انقطاع طويل ولظروفه المرضية استطاع أن يتحصل على شهادة الدكتوراه سنة 2020”.
بدأت ملاح النبوغ تظهر عليه منذ كان في مراحل التعليم الأولى، يقول الدكتور عبد الكريم عوفي أن: “توهجه الفكري بزغ عندما التحق بالجامعة ودرس علوما غير تلك التي كان يحصلها في الثانوية ومرحلة الليسانس”، فقد كانت لمرحلة الماجستير والدكتوراه أثر كبير على تحصيله لمعارف ساعدته على انجاز عملين أكاديميين الذين يعدان نتاجه الفكري العلمي، “منهج ابن عطية في ضبط الألفاظ في تفسيره المحرر الوجيز”، وقد أعدها تحت إشرافي وأطروحته التي نال بها شهادة الدكتوراه وكان عنوانها “منهج الاحتجاج اللغوي للقراءات القرآنية وتوجيهها”، والتي أشرف عليه في إعدادها الأستاذ الدكتور بلقاسم ليبارير.
قبل ذلك ذكر الطالب عبد لعزيز شوحة الذي كان ينجز رسالته الماجستير: “أشرف علي في البداية الدكتور صبيحي التميمي، لكنه غادر الى بلده لظروف ما، ثم كلف الدكتور عبد الكريم عوفي ليشرف علي، والذي نصحني بأن أحدد نطاق البحث الذي كان طويلا جدا حيث قرأت منه 16 جزء ووضعت عليه علامات، وبسبب وضعي الصحي، ليكون في ضبط الألفاظ في تفسير المحرر”.
يشير عبد الكريم عوفي في ذات الشأن: ” كنت مشرفا على عمله، وتقدمت بطلب لمعهد اللغة العربية والأدب لإجراء تعديل على العنوان وتقليصه قدر الامكان، لظروفه الصحية، أشادت لجنة المناقشة بهذه الرسلة التي تعد الأول من نوعها في ضبط أحد تفاسير القرآن الكريم، كان يعمل بجد ويتميز بفكر ووقار متوهج، فالقارئون أمثاله نادرون، حتى أن لجنة المناقشة استحت من مناقشة هذا الفكر النابغة الذي أبهرهم في تقديم هذا العمل المهم والضخم والذي يعد اضافة حقيقة للإنتاج الفكري وللمشروع الحضاري الإسلامي”.
لم يتوقف عبد العزيز شوحة في مد فكره لكل من يرغبون التشبع من الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية، يضيف عبد الكريم عقون قائلا: “نشر في التسعينات الكثير من المقالات تحت عنوان “الإسلام ومشكلاتنا المعاصرة” في جريدة “رسالة الأطلس” التي كانت تصدر في مدينة باتنة. كما نشر في السنوات الأخيرة مقالات عديدة في جريدة “الأوراس نيوز” اليومية التي تصدر من باتنة كذلك. أما إلكترونيا فقد نشر مقالات كثيرة في عدة مواقع منها بصفة خاصة موقع الشهاب وموقع الحوار المتمدن وغيرها من المواقع الإلكترونية، وأيضا بحث علمي نشره في مجلة “الإحياء” وكان عنوانه “ظاهرة الأحرف السبعة في القرآن الكريم ودورها في الحفاظ على اللسان العربي”.
تعرض الرجل المبتلى عبد العزيز شوحة للكثير من الأذى الذي ترك له أثرا عيقا وجرحا لا يندمل، خلفتها العشرية السوداء التي أخذته ظلما لترمي به بين جدران السجن، تعرض خلالها لتعذيب شديد أدخلته حالة نفسية عسيرة ومشكلات اجتماعية ظل يعاني منها طيلة ثلاثين سنة، يقول الأستاذ لعلى يحياوي: ” في أزمة 90 كنت في سجن باتنة، وفي صبيحة ما أدخلوه، بالكاد تعرفت عليه مما تعرض له ولحقه من أذى وتعذيب، وكان رحمه الله في حالة نفسية متدهورة جدا، أدركت أن الأمة مريضة، فالأمة التي تسجن عقلا في مستوى سي عبد العزيز مرضها عميق”.
الجدير بالذكر أن مكتبة الإحسان التي كانت لها الباردة الأولى في تنظيم تأبينيه له، باقتراح من صاحبها الناشط الثقافي محمد بن عبد الله فراح، حيث كان المرحوم عبد العزيز شوحة من مرتاديها، تم خلالها تسمية الرواق الذي يجتمع فيه المثقفون والكتاب باسمه تقديرا لأعمال الفقيد ومشاريعه الحضارية التي لم تكتمل بعد ولن يستثمر فيها، يقول محمد عبد الله: “كان الكتاب أحب شيء إليه في الحياة منذ عرفناه”.
وأجمع الحاضرون على وجوب تقديم ندوات وملتقيات في الجامعات وأيضا في المراكز الثقافية حول حياة وفكر المرحوم المفكر الداعية عبد العزيز شوحة، وعنونة مختلف المحاضرات التي تقدم خاصة وأن الرجل المفكر له من الأعمال والمواقف والنتاج الفكري ما يستحق دراسته وتقديمه بتقدير كبير جدا.
رقية. ل