ثقافة

للشاعر المخضرم عامر شارف

قراءة في ديوان (عبق الطّين)

بقلم عبد الله لالي

الحلقة الأولى (01):

طُبع ديوان (عبق الطين) للشاعر الجزائري البسكري عامر شارف في دار علي بن زيد للطباعة والنشر، ديسمبر 2023، في حجم متوسط توزّع على تسع وثامنين (89) صفحة، في إخراج جميل  وطباعة أنيقة، تليق بمقام الشاعر وترسّخه في عالم القصيد.

ستّ وثلاثون قصيدة تربعت على عرش الطين، هو ذلك ديوان الشاعر المخضرم عامر شارف الذي يقف بين ضفتين، جيل التأسيس والنهضة، وجيل التمرّد والثورة، وفي كلّ له مشاركة ونصيب لا ينكر هذا الشاعر أو الطبيب الشاعر، مارس الشعر والقصيدة هواية وموهبة دافقة، ثم تخصص في الأدب والنّقد بعد دهر قضاه في عالم الجراحة والتخدير؛ اختصاصه الأصيل الذي ختمه بتقاعده بعد التحدّي الأكبر الذي خاضه في زمن كرونا دون نكوص أو وجل.

وكنت منذ سنوات طويلة أحاول الولوج إلى عالم عامر شارف الشعريّ وهو على بساطته معقد ممتد في اتجاهات ورؤى مختلفة، تحسبه هنا وإذ به هناك، تظنّ أنك أمسكت بالكَلِم من قلمه ومِقْوَله؛ وإذا به ينساب بك إلى رحاب أخرى أوسع وأكثر إيغالا في أحراش الإنسانية العميقة، ومتاهاتها الكبيرة.

وجاء ديوان (عبق الطين) ليكون المفتاح لهذا العالم البهي، لا أنكر أنّ الدّكتور عامر شارف صديق قديم، وواجب الصّادقة كان يقتضي التعرّف على تفاصيل الحرف من قرب، ولكن القريب أحيانا لاعتياد رؤيته نغفل عنه أو نظنّ أننا قرأناه مبكرا، لكن الحقيقة أبعد عن ذلك بكثير، والشاهد عبق الطين..!

يقول الشاعر بكرمه وكرم وطنه من قصيدة (على كرم..):

من الأسخى على كرم أيا وطني * * ففي قلبي بنيت هنا لك وطنا

حملتك في شراييني معي ولها * * وقد أوقفت إكراما لك الزمنا

صورة متفرّدة لا تكاد تتردد كثيرا في قصائد الشعراء، بله أن تُسْتَهلك، وكان من المعتاد أنّ الوطن هو الذي يتدفّق كرما وجودا، ورحابة صدر بمن ضمته تربته وأرضه، ويفتخر الشاعر بذلك ويتباهى، ويعرف معروف الوطن، وقد قال الشاعر العربي قبل ذلك:

بلادي وإن حارت عليّ عزيزة * * وأهلي وإن ضنّوا كرام

لكنّ الشاعر الدّكتور عامر شارف قلب الآية وعكس وظيفة المرآة التي كان يرى الشاعر فيها نفسه، فأصبحت المرآة هي التي ترى ذاتها في الشاعر، وحقا رؤى الشعراء لا تكاد تحدّ أو تنتهي، فالشاعر يفاخر الوطن نفسه بأنّه هو الذي بنى له في قلبه وطنا، فالوطن في دفق دمه ونبض شرايينه وبين تجاويف الفؤاد وحقّ للوطن أن يأنس ويطمئن بأن صار له قلب الشاعر وطنا..صورة فنية جميلة وبديعة يبدأ بها الشاعر ديوانه الدّافق، 36 قصيدة كلّها في الوطنيات كما أخبرني الشاعر نفسه، وتحدّثت إليّ قصائد ديوانه، وبعد ديوان الوجدانيات (آيات السّحر).

ويعجبك في المعجم اللّفظي للشاعر أنّك تطلع من خلاله على لغة جديدة لم تعتدها، وكأنّه ليس ذلك الشاعر الذي عايش شعراء السبعينيات والثمانينيات وإنما هو شاعر الألفيّة الثالثة، ولذلك تجده في هذا الديوان عزف عن المطولات الضافية التي عرف بها، وكأنّه أراد أن يخاطب الجيل الجديد بلغته المختصرة، والمركزة التي يفهمها ويستلذها، لكنّه لا يقوى على المطوّلات والإسهاب الشعري القديم، ورغم ذلك فالشاعر يشعر بحزن كبير وأسى عظيم في بعض من محطات الحياة التي يتألم لها وطنه فيتألم الشاعر بألمه فيقول في قصيدة (مفاتيح الرواق النّائي):

من يا ترى تبكي له الأحزان * * ويظلّ يغمر نعشه الريحان

وقبل الغوص في لجج ديوان (عبق الطين)، فلنقبس قبسات من عتباته، عساها تكون لنا شموعا هادية في مدلهم معانيه التي تعانق اللغة الفلسفيّة والسمت الصّوفي بغزارة كبيرة، ولنبدأ من حيث يبدأ دوما؛ من العنوان (عبق الطّين).

تفكيك العنوان:

عنوان ثنائي التركيب على شاكلة عناوين كثير من الدواوين المشهورة، وهذه الثنائية تؤلف انسجاما باهرا بين الوطن ونشوة الإنسان التي تتحقق بما يجده في وطنه (الطين) من لذة جامعة ومتعة آسرة من خلال (العبق)، والعبق في اللغة لا يطلق إلا على الرّائحة الطيبة مثله مثل الأريج والعَرْف والشذى وغيرها، وإذا نظرنا إلى اللّفظ الثاني الذي رمز به إلى الوطن، نجده اختار لفظة الطين بدل الأرض أو التراب وهذا له معنى خاص، وكأنّ الطين يحمل معنى الحياة التي أساسها الماء، “وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ”، وكان الطين دوما رمزا للحياة.

العناوين الفرعيّة:

تراوحت العناوين بين الإشباع الفلسفي الذي يُغلّق على المعاني أقفالها إلا لمن أوغل فيها برفق، وسار على أمشاط الحرف مستظلا بـــ (عبق الطين) ، وبعض تلك العناوين مباشر الدلالة واضحها يقول للقارئ هِيتَ لك، هذه قطوف دانية، فتذوّق هنيئا مريئا..!

فمن النوع الأوّل يمكن أن نحصي (مفاتيح الرّواق النّائي/ أيّها العروج/ نشيد النون/ متى أتكرر/ متفرّد مفرد/ الآن آمنت، إعلان بمرسوم شعبي).

وكلّ هذه العناوين تحتاج إلى مفاتيح خاصّة تتوزع بين الفلسفي والصّوفي، ولا تقرأ بالمنطق المباشر وإنك تحتاج إلى شفرة خاصّة للتذوق الجمالي وتفكيك عقد الروح المتعبة.. ومن النوع الثاني يمكن رصد ما يلي:(على كرم/ السّكوت/ إيه عروبتي/ وطني وطني/ يا دار/ حديث أرواسي..) وغيرها.

ولعلّ السبب في تنوّع العناوين بين المباشرة والتشفير الإيحائي هو طبيعة الموضوع نفسه، فبعض القصائد مناسابتية اقتضتها الظروف وفيها الفخر والمدح وذكر فضائل المكان ومحاسنه، ومن ثمة تكون فيها بعض المباشرة المقبولة في مثل تلك المواقف، من مثل قصيدة (حديث أوراسي)  التي يقول فيها: فأوراس الجزائر أرض عزّ* *وجنّات.. وليس بها مقابر

فـــــلا نحتــــــــاج نبــــــــكي في المنـــــــــــافي* *ولا نبـــــدي الدّموع في المحاجر

ولأنّ بلاد العرب كلّها وطن للشاعر ففي الديوان قصائد أخرى في غير بلده الأصلي الجزائر، فبعضها في فلسطين مثل قصيدة (سنعيد القدس لنا .. إن شاء الله)، وبعضها في تونس الخضراء، وبعضها في دمش الشام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يرجى تعطيل مانع الإعلانات.