ثقافة

قراءة نقديّة في رواية (أم هانئ)

للأديبة الشاعرة خديجة تلّي

بقلم: عبد الله لالي

الحلقة الخامسة (الأخيرة):

ومن الخصائص الفنيّة التي جاءت في الرواية أيضا:

التناص:

تقنية التناص تقنية فنية مهمة جدا في أي نصّ إبداعي، ورغم أنّ الكاتبة استخدمتها بشكل قليل، لكنها جاءت بطريقة فعالة وساهمت في تقوية المتن الإبداعي، ومن تلك الاستعمالات نشير إلى التناص مع القرآن الكريم في موضعين اثنين من الرواية حيث قالت: من ص 106:

“تشابهت قلوبهم فهم كالحجارة أو أشدّ قسوة منها..” وفي هذه العبارة تناص جلي مع قول الله تعالى من سورة البقرة الآية 74:”ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة..”

وفي ص109: قالت:”اغتاضت حورية من الخبر وتملكتها الغيرة التي تعرفها معظم النساء، لكن أسرتها في نفسها ولم تبدها له..” وهي أيضا تناص مع قول الله تعالى من سورة يوسف الآية 77:”فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِۦ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْۚ”

والتناص مع القرآن الكريم من أجمل أنواع التناص، إذ يضفي على النّص من سحر البيان الرباني وقوّته الأسلوبية ما يرفع من مستواه الفنّي إلى الذّروة فيؤخذ به القارئ ويسحره سحرا، لاسيما إذا كان هذا التناص بشكل غير مباشر بحيث يدمج في السياق كأنّه جزء أصيل منه، فلا يذكر الكاتب السورة والآية وقد يأخذ جزءا من آية أو مقطعا منه يكفيه حسب السياق الذي يريده، فيكون مع النّص لحمة واحدة متماسكة.

وقد يكون التناص مبنى ومعنى بحيث يستعين الكاتب بنص فيأخذه كما هو بألفاظه ومعانيه، وقد يكون التناص أحيانا معنويا بحيث يوظف الفكرة بشكل جلي حتى ليقول المطلع والخبير كأنها هي، ومنه أيضا استدعاء الكاتبة لقصّة حيزيّة في بعض جوانبها وتطعيم النّص بها، فيكون التناص هنا معنويا أكثر منه لفظيا، تقول الكاتبة في ص 74:

“لسنوات ظنّت نفسها أمام عاشق لا يشبه في عشقه لها سوى سعيد حيزية، أعظم عاشقان في صحراء الجزائر آنذاك، عرفت قصّتهما فيما بعد، نهاية مأساوية كالتي تعيشها أم هانئ تماما..”

ومع ذلك استخدمت الكاتبة أيضا أبياتا من ملحمة ابن قيطون التي كتبها عن حيزية وسلف أن سقنا تلك الأبيات فتكون قد جمعت بين التناص المعنوي مرّة، والتناص اللّفظي مرّة أخرى، وهذا من مؤشرات تمكن الكاتبة وبراعتها في استخدام الموروث الثقافي.

كما وظفت التناص مع رواية أحلام مستغانمي من روايتها (الأسود يليق بك)، وهي رواية أحدثت  ضجةكبيرة في العالم العربي، وهزت عروش السرد الروائي التقليدية، تقول في ذلك المقتطف من روايتها:”كان كمن يصدمأحدا بسيارته، ولا يتوقف لإسعافه، ثمّ يواصل طريقه لحضور حفل موسيقي دون شعور بالذّنب” وإذا كان هذا التناص على شكل اقتباس مباشر، فإنّ الفكرة نفسها وظفتها الكاتبة بشكل آخر عن طريق التناص غير المباشر من الصّفحة نفسها بعد ذلك مباشرة حين تقول:”وهكذا كان تماما، وكان الأسود لونا لا يليق سوى بقلب أمّ هانئ..”

وتأثر الكاتبة بسيّدة السّرد الروائي في العالم العربي واضح جدا، وقد سبّقنا بالحديث عن جعل أحد نصوصها عتبة لهذه الرواية، وفي أسلوبها كثير من المقاطع التي يظهر هذا التأثير بشكل كبير، وهو أمر محمود في الإبداع عموما.

التصوير الفنّي:

ويمثل التصوير الفنيّ جانبا هاما من البناء الفنّي وينقل الرواية من مجرد السرد والحكي العادي، إلى عملية الرسم بالكلمات، ومن ذلك نأخذ هذه النماذج برهانا على ما نقول:

المشهد الأوّل:

في مطلع الرواية من ص10 تبدأ الكاتبة بمشهد تصويري لبلدة طولقة في فترة العشرينيات من القرن الماضي تقول فيه:”يبدو الزاب الغربي الظهراوي أكثر هدوءا، وطولقة تنعم بالنسيم العليل في ربيع هذا العام، منطقة تقع في الشمال الشرقي للصحراء الجزائريّة، تغطيها الرمال الذّهبية وتزيدها سحرا تلك التلال الجبلية وأشجار النخيل الباسقة..”

بهذا المشهد الوصفي الدقيق والجميل تضع الكاتبةُ القارئَ في الإطار العام للفضاء المكاني للرواية، بحيث تجعله يتصور تفاصيل هذا المكان ويعجب به، فهو وصفٌ إيجابي محفز، من خلال مفاتيح الوصف التالية: (هدوءا/ تنعم/ النسيم/ العليل/ ربيع/ الرمال الذهبية..)، فهذه كلّها كلمات تفتن القارئ وتدفعه إلى حبّ هذا المكان والاندماج فيه بكل سهولة ويسر.

المشهد الثاني:

في هذا المشهد تنتقل الكاتبة من الوصف العام لبلدة طولقة إلى الوصف الخاص لأحد البيوت التقليدية في الزاب الغربي (الظهراوي) في تلك الفترة؛ فتقول من ص 11:”وتضيق وهي ترفع من على الطاولة المستديرة الصّغيرة الموضوعة في حديقة بيتنا البسيط، التي تزيّنها شجرتا برتقال ضخمتان، مرّ عليهما عقد من الزمن، لم تزدادا فيه إلا ثمارا واخضرارا، فنجان قهوتها المحلاة بأربع ملاعق من السكر كأنها تشرب العسل صافيا، فجدتي رغم كبر سنّها مولعة بالسّموم البيضاء (السكر والملح)..”

يكمن سرّ هذا المشهد في تنوّعه بين الوصف المادي والوصف المعنوي، وبين وصف المكان ووصف الإنسان (الجدّة)، فالمكان هو عبارة عن حديقة بيت جميلة، فيها شجرتا برتقال، تصفهما بإسهاب، ثم تتحدّث عن عمرهما الزمني كأنهما من البشر، وهذا وصف معنوي، وتصف قهوة جدتها وصفا ماديا، ثم تنتقل إلى وصف عادة جدتها في شرب القهوة وأنها لا تلتزم بنصائح الأطباء (وصف معنوي)، كما أنها تقدم للقارئ ضمن هذا الوصف معلومة طبية عزيزة عن السكر والملح، فهذا مشهد ضاج بالحياة..!

كلمة الختام:

هذه رواية غنيّة بالأفكار ثريّة بالصور البيانية والتقنيات الفنيّة الساحرة، تحتاج إلى أكثر من قراءة وأكثر من دراسة، تعالج واقع الإنسان الجزائري في منطقة تاريخية عريقة وفي حقبة تاريخية شهدت جولات كبرى في تاريخنا، فطافت بجانب كبير من واقع العادات والتقاليد والوضع السياسي، وحياة المرأة الجزائرية في البادية والرّيف والبلدات الصغيرة التي عانت كثيرا في ظلّ استعمار استئصالي بغيض، ونجحت في نقل الصورة الحقيقية لتلك الفترة بكلّ صدق وإبداع جميل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يرجى تعطيل مانع الإعلانات.