
قراءة في كتاب : (تاريخ الجزائر الثقافي)
لمؤرخ الجزائر أبي القاسم سعد الله
الحلقة الثالثة (الأخيرة):
من أراد أن يلمّ بالحياة الثقافية للجزائر بقظها وقظيظها في عهد الاحتلال الفرنسي الغاشم؛ فعليه بهذا المجلّد من (تاريخ الجزائر الثقافي) لسعد الله فهو يزخر بالمعلومات والأفكار القيّمة التي يضفي عليها من رأيه ونظرته الثاقبة ما يجعلها لا تقدّر بثمن.
وفي حديثه عن الفنون التي كانت منتشرة في ذلك العهد نقف عند كلمة هامة له تعبّر عن رأيه النقدي وقراءته العميقة للأحداث، يقول سعد الله:”ولم يكن لباس المطروزات خاصاً بالنساء بل كان الرجال يلبسون المطروز أيضاً، وكان ذلك من علامات الثروة والأبهة والذوق السليم. ويذهب بعض النقاد إلى أن العثمانيين هم الذين أدخلوا الطرز، وهو قول مارسيه، ولكن المعروف أن الأندلسيين قد برعوا في هذا الفن. فالقول بأن الجزائر مدينة في صناعة الطرز للأتراك فيه مبالغة ظاهرة. والعبارة في حد ذاتها غير دقيقة لأن التأثير عموماً كان شرقياً، بمعنى أن الصناعة قد تكون شامية أو فارسية وليست تركية بهذا المعنى. وللشام علاقة وطيدة بالأندلس وفنونها. ومن جهة أخرى فإن الذوق الوطني أو المحلي كان واضحاً في المطروزات، يظهر ذلك في العقود الفنية والأشجار والغصون والتشابكات وانسجام الألوان..”
وهنا لا نجد المؤرّخ الذي يدوّن التاريخ ويكتبه فقط، أو يأخذ المادة التاريخية كما هي ولا يعلّق عليها بشيء؛ وإنما نحن أمام مؤرخ واع مرهف الإحساس يُشرع أدواتِه النقديّة فيعمل على غربلة الأحداث والوقائع ويمحّصها تمحيصا، حتى في الفنون التقليدية؛ لا يسلم في مجال اللباس والزخرفة أنّ هذا الأسلوب موروث عن العثمانيين، بل يرى أن ذلك يعود إلى الفنّ العربي الأصيل الذي عُرف في بلاد الشام والأندلس التي بلغت به إلى ذروة الإبداع..!
وهذا الأسلوب في التأريخ هو أسلوب يتفاعل مع الوقائع ويتأثر بها سلبا وإيجابا، وينقلها إلى القارئ صافية دون شوائد أو كدر، ومن الوقائع التي تحدّث عنها ودوّنها الكاتب؛حديثه عن الآثار الإسلامية في الجزائر في فترة الاحتلال الفرنسي حيث ذكر أنّ الفرنسيين ألفوا عنها كثيرا بينما لا يوجد مؤلّف واحد عنها كتبه الجزائريون، وذكر أبو القاسم سعد الله عن أحد الكتاب الباحثين الفرنسيين أنّ العرب اهتموا بالورق ولم يهتموا بالحجارة، أي أنهم اهتموا بالآثار المكتوبة ولم يهتموا بالآثار المادية مثل التماثيل والقلاع والحصون والنقوش وغيرها، وهذه ملاحظة مهمة لها أسبابها وملابساتها.
وقد يرجع اهتمام العرب المسلمين بالكتب دون غيرها من الآثار المادية الأخرى التي ذكرنا؛ إلى اعتبارهم الآثار المادية مثل المنحوتات والتماثيل تشير إلى الشرك وعبادة غير الله، وتقديس الإنسان في صورة آلهة متعدّدة، والكتب تمثل العلم والمعرفة الصّرفة. ومن الأمور الأخرى الرائعة التي ذكرها سعد الله وناقشها بعمق هو الحركة الفنية التي شهدتها الجزائر في تلك الفترة، وقدوم الفنانين الفرنسيين والأوربيين إلى الجزائر والاستقرار بها ثم اتخاذها مصدر إلهام ساحر ومحفز، وقد أنتجوا في تلك المرحلة أروع لوحاتهم الفنية، وضرب مثلا بالرسام فيرنيه الذي سكن بالمتيجة (بوفاريك)، بمسكن طرد منه صاحبه الجزائري واستولى عليه، والغريب أنّ هذا الفعل والسلوك الهمجي يتنافى مع شخصيّة الفنّان التشكيلي، التي يفترض فيها الرقّة والإحساس والشعور بالآخرين.
ويقول سعد الله أحد أشهر الفنانين في تلك الفترة وهو فيرنيه”وقيل إنّ فيرنيه قد أصبح من الكولون (مستعمر) في منطقة متيجة حيث سكن مدينة بوفاريك، وأصبح يرسم معارك لم يحضرها أبداً، وإنما يرسمها من الخيال والحكايات، وربما من وصف الجرائد وكان بيته هو (حوش ابن قبة) الذي أصبح مرسمه بعد أن طرد صاحبه منه وكان فيرنيه يرتاد خمارة (كابريه) في بوفاريك ويدفع ثمن ما يشربه برسم اللوحات. وقد زار فيرنيه الجزائر أكثر من مرة . ومن لوحاته الشهيرة المناظر العسكرية، وتوجد منها بالخصوص نماذج في قصر فرساي. وكان يُظهر فيها غلبة الجندي الفرنسي على المقاوم الجزائري . ومناظره كانت تمثل المدرسة الرومانتيكية ونفوذ الاستشراق في الجزائر والتأثر بألوان الطبيعة وضوئها. وفيها يظهر أيضاً الملمح الإسلامي – المسيحي”.
وهنا أيضا نكتشف تحيز الفنان إلى المحتلّ الغاصب، فلا يشفع له فنّه ولا إبداعه في أن يكون موضوعيا أو حياديّا، ولذلك من الصّعب أن نصدّق ما يروج له الغرب من عالمية الفنّ وإنسانيته، فلا مجال لذلك إلا في حالات نسبية ونادرة جدا. وفي هذا المجلّد الثامن الغني الثري أجاب أبو القاسم سعد الله عن تساؤل كبير كان يتردد في نفسي كلما قرأت عن الفنان التشكيلي الفرنسي المسلم إتيان دينيه (نصر الدين دينيه)، إذ أنّ كثيرا من لوحاته الفنيّة التي شاهدتها تتنافى مع مبادئ الإسسلام وقيمه، وكان الجواب سهلا وبسيطا، حيث أنّ نصر الدين دينيه لم يعتنق الإسلام إلا في أواخر عمره وبالضبط عام 1927 ، وبالتالي ما رسمه قبل ذلك وفي بعضه ما يعبر عن المحتل الغاصب ونظرته الدونية للإنسان الجزائري المسلم، وفي بعضه خلاعة وتجاوز للقيم الدينية..!
ومن أروع ما قاله سعد الله حول أعمال الفنان نصر الدين ديني ص 417:”من لوحاته الدينية: (العرب أثناء الصلاة)، وهي تمثل صورة ثلاثة من الرجال في حالة تأهب للتكبير وهم بلباسهم الإسلامي الأبيض، ولكنّه أضفى على الصورة ألوانه الخاصّة، وجعل حركات أيديهم ولمعان عيونهم كأنّها ناطقة، ومنها (أطفال العرب أثناء كتابة الألواح في المدرسة القرآنية التقليدية). وهي أيضا لوحة نابضة بالحياة..”