
قراءة في كتاب (الوجه الآخر للتربية والتعليم) للكاتب: جمال باشا
عرض: جمال الدين خنفري
للتو انتهيت من قراءته بعد فترات متقطعة من ملازمته ذلك هو كتاب “الوجه الآخر للتربية والتعليم” مؤلفه الأستاذ: جمال باشا الصادر عن دار (أدليس بلزمة للنشر والترجمة) في هذا العام 2022 في طبعة ممتازة أنيقة ذات الحجم الكبير احتوت على ما يقرب من 287 صفحة ومواضيعه عبارة عن مجموعة من المقالات كانت تنشر في أسبوعية وطنية (رسالة الأطلس) في إطار عمود أسبوعي تحت عنوان “هذه الظاهرة” وقد بلغ عددها في هذا الكتاب 134 مقالا يتسم بالصراحة التامة والجرأة النادرة في تناول واقع المنظومة التربوية من تسيب وتعفن وبأسلوب مستفز وبصورة كاريكاتورية موظفا إلى جانب ذلك الكثير من الأمثال والحكم التي لها علاقة مباشرة بأطروحاته وتخدمها بشكل ملائم وهذا كله من باب دفع الجهات الوصية على العملية التعليمية التعلمية إلى تحسيسها بوجوب المشكلات المطروحة وتوجيه جهودها لحلها والتخلص منها نهائيا لرفع مردودية قطاع التعليم وتحسينه في مختلف مراحله، وللكتاب قيمة مضافة في المكتبة العربية لما يتضمنه من رصد لمجموعة من آليات الفساد الممنهج في هذا القطاع الحيوي فالمؤلف ابن هذا القطاع وعايشه لعدة سنوات بكونه مربيا ومسؤولا وإداريا ويعرف مداخله ومخارجه معرفة جيدة ويدرك ما يتخلله من زلل وخلل واختلال في الموازين ومثلما يقال “أهل مكة أدرى بشعابها” وفي هذا السياق ينوه الكاتب بدور المعلم في العملية التربوية التعليمية ويمثله بالشمعة التي تحترق لتنير طريق الآخرين وبالتالي فهو الشخص الذي يعطي من جهده وأعصابه دون أن ينتظر جزاء ولا شكورا ويكد ويجد من أجل الارتقاء بمستوى المتعلمين.
في هذا الكتاب عمد المؤلف إلى عدة شخصيات وهمية من نسج خياله وأعطاها أسماء ومدلولات مثيرة للجدل وغريبة من حيث المعنى والمبنى لمسايرة تطور الأحداث وتوضيح الأفكار الرئيسية فميا يطرح من مواضيع في مقالاته مقدما إياها تحت عنوان “بطاقات تعريف”، مقدما في ذات الوقت اعتذاره لقرائه بقوله: لكل من صادف وأن تطابق أو تشابه اسمه الكريم مع هذه التسميات فهو من باب المصادفة فقط (غير المحبذة).
1ــ حنون المغبون: (يمثل غالبية الشعب الجزائري).
2 ــ دردكو لمعوج: (رجل أعمال يمثل مجموع طبقة أثرياء المناسبات ــ الكليبتوقراطية ــ أي حكم اللصوص).
3 ــ شطشاط لمفرعن (يمثل مجموع الطبقة السياسية الجاهلة الوصولية).
4 ــ بهتان لمفسد (يمثل الأولغارشية أي حكم الأقلية و صاحب شركة الشطلي يطلي).
5 ــ صابر لمدربل: (يمثل الفئة المتعلمة المهمشة).
6 ــ خبول البهلول: (يمثل الفئة الهشة في المجتمع).
7 ــ عجاج رعدة: (يمثل المجتمع المدني).
8 ــ جزيرة الوق واق: (هي الجزائر كمؤسسات رسمية وممارسات بيروقراطية و نظام حكم شمولي يرفض التداول السلس على السلطة).
ومن هنا نشير أن الكتاب جاء ليضع اليد على الجرح ووضع النقاط على الحروف في أسلوب تهكمي ساخر لما آل إليه الوضع المزري في قطاع التربية والتعليم وفحصه تحت المجهر ومحاولة إبراز بشكل جدي المحاور الأساسية في تدهور هذا المجال الحيوي عبر عدة عناوين مختلفة ومتباينة لمقالاته ذات صلة بواقع المنظومة التربوية.
وانطلاقا من هذه المعالجة وفي مقال تحت عنوان (هذه حجتهم) نجد الكاتب يذهب إلى المقارنة بين وضعية التعليم بعد الاستقلال (1962) وما عليه اليوم من فوضى وعشوائية مبرزا ذلك في الفرق الشاسع في المستوى التعليمي بحجة الذين عايشوا تلك المرحلة: “أن مستوى المعلمين والمتعلمين في تلك الفترة أفضل بكثير من مستوى الأجيال اللاحقة رغم الظروف الصعبة الموروثة عن الاستدمار الفرنسي البغيض وباتفاقهم أن تلميذ السنة الرابعة من التعليم المتوسط آنذاك كان بمقدوره أن يناقش فكرة ويلخص موضوعا ويترجم فقرة ويكتب رسالة ويحرر طلب عمل بخط مقروء دون (كوارث) إملائية أو نحوية وصرفية وبتعبير واضح وجميل، بينما يعجز عن ذلك أغلب تلامذة اليوم في مختلف مراحل التعليم، وقد أثبت المعلم في تلك الفترة رغم الظروف الصعبة ومستواه العلمي (السنة الثالثة ثانوي أو الرابعة متوسط وأحيانا دون ذلك) جدارته وتخرج على يده إطارات سامية أثبتت كفاءتها في جميع مجالات الحياة في الداخل كما في الخارج”.
وفي صورة للتحكم في القسم وتجنب الفوضى به لم يتأخر كاتبنا في عرض خبرته وتقديم توجيهاته باعتباره رجل من رجال التربية والتعليم وهذا بعد أن رأى أن المعلم في قسمه أثناء إلقاء درسه يواجه صعوبة كبيرة في التحكم في تلاميذه وفرض هيمنته عليهم وهذا بسبب المستوى العلمي المتفاوت في الصف الواحد بالإضافة إلى تفاقم ظاهرة الاكتظاظ وكثافة البرامج وعدم كفاءة الأستاذ بيداغوجيا وضعف شخصيته، مبينا وللقضاء على هذا التسيب والإهمال والشغب والاتجاه نحو فرض الانضباط والهدوء بشكل تام على التلاميذ في الصف ليتيسر له أداء مهمته النبيلة بشيء من الراحة والمتعة أن هناك عدة عوامل أساسية وضوابط محددة يجب الأخذ بها والعمل على مبدئها كما ورد ذكرا: في مقاله (المهمة الشاقة).
1 ـ الرغبة في وظيفة التدريس وتقبل مواجهة التحديات.
2 ـ الإلمام بمادته التي يدرسها جيدا.
3 ـ الانضباط والالتزام بالبرامج والنصوص القانونية والتحلي بمكارم الأخلاق.
4 ـ الهندام والأناقة وفق تطور مراحل سنه وتمشيا مع بيئته الاجتماعية والدينية.
5 ـ مراعاة الفوارق الفردية للطلاب لمسايرة جوانبهم العقلية وقدراتهم الإدراكية والانفعالية واستدراجهم إلى أجواء الدرس.
6 ـ المعرفة الجيدة للهدف العام والخاص من الدرس ليسهل له تحقيق مبتغاه بشكل أفضل وأسرع.
من المعروف أن المعلم هو النبراس الذي يضيء درب حياة الإنسان ويساهم بشكل فعال في بناء تطور المجتمعات وازدهارها نحو الأفضل ولكن عندنا ينظر إليه باحتقار ويعامل بازدراء وهذا يعطينا صورة عن مجتمع موبوء نفسيا وذهنيا وفي هذا السياق يشير الكاتب (جمال باشا) إلى هذه الظاهرة المعيبة في معرض مقاله (مؤلمة) الغريب أن المعلم من أكثر فئة في المجتمع تتعرض للنقد والانتقاد وتنسج حوله الكثير من القصص المستفزة والطرائف اللاذعة للحط من قيمته والنيل من كرامته حتى أن المسؤولين في أجهزة الدولة لا يتأخرون في تهميشه واحتقاره والعمل على وضعه في آخر درجات السلم الاجتماعي دون مراعاة ما يقدمه من رسالة نبيلة تصب في صالح هذا الوطن.
حتى أن الاحتفال باليوم العالمي للمعلم (05 أكتوبر) من كل سنة هذه التظاهرة الجليلة لم يلتفت إليها بالقدر الكافي ولم تحظ بما يلزم من الحفاوة لوضع المعلم في صورة المحتفى به وإحساسه بقيمته في هذا اليوم العظيم بل هذا الاحتفال لا يزيد عن عبارة وقفة استعجالية ذات ملامح باهتة تكرس بشكل عميق في إهانة المعلم و الحط من قدره. في صورة هجينة وهذا كما ذكر الكاتب ضمن مقاله (فاصل وتواصل) “بتوزيع عليه على عجل الهدايا والأرباح المتمثلة في بعض الخردوات كالأقلام المنتهية الصلاحية وبضعة أوراق عادية طبعت عليها عبارة “شهادة تقدير” أبرز ما فيها اسم ولقب السيد المدير وخاتمه المستدير، ولا شك أن هذه الأوراق لا تؤخر ولا تقدم من وضعهم المادي والنفسي شيئا، لأن التقدير كما قال عمي صابر لمدربل ليس مجرد كلمات ليست كالكلمات يسرقونها من هنا وهناك ليغازلوا بها المعلم في مختلف المناسبات، وإنما هو ممارسات عملية معنوية ومادية تكون نابعة من إيمان كبار المسؤولين بدور أسيادهم المعلمين في الذهاب بالمجتمع نحو حياة أفضل”.
وعن انتشار ظاهرة التسرب المدرسي بشكل رهيب ينسبها الكاتب في مقال له (تكريس الرداءة) إلى سبب أن “أغلب خريجي الجامعات أضحوا عاطلين عن العمل بينما غيرهم من كل الفئات العمرية يمارسون نشاطات غير شرعية وغير قانونية تدر عليهم أموالا طائلة تفوق في أغلب الأحيان أجرة إطارات سامية في الدولة” مضيفا “مما شجع الصغار على العزوف عن المدرسة واحتقار السادة المعلمين، بل والاعتداء عليهم كلما حثوهم على طلب العلم ونهوهم عن المنكر”، وتابع قائلا: “فالتحقوا فرادى وجماعات بالشوارع الرئيسية واحتلوا الساحات العمومية وتوغلوا في الأزقة المشبوهة لممارسة مختلف الرذائل وبعض النشاطات التجارية غير القانونية أمام صمت الجميع وكأن هناك مخططا لنشر هذه الآفات لضرب قطاع التربية والتعليم وتحطيم الاقتصاد الوطني”، مستخلصا وفي مثل هذه الظروف “حدثت القطيعة بين المجتمع والمدرسة”.
وفي مقال (بلا ضمير) يضعنا الكاتب أمام واقع مر يكشف لنا من خلاله الكثير من مواجع قطاع التربية والتعليم هذا القطاع الذي انتهج فلسفة الصعود نحو الأسفل رغم ما يتوفر عليه من معلمين أكفاء قال عنهم الكاتب أنهم “يمتلكون إمكانات علمية وقدرات ذهنية كبيرة جدا، ولهم من الموهبة والخبرة ما يؤهلهم ليكونوا مثالا يحتذى به داخل القطاع وخارجه ـ لكنهم للأسف ـ سرعان ما ضرب بعضهم بأخلاقيات وظيفتهم المقدسة عرض الحائط متأثرين بشكل أو بآخر بالسلوكات العامة للمجتمع “واصفا إياها” غير السوية التي أضحى يمارسها بعض الأساتذة الذين تخلوا عن ضمائرهم بإرادتهم عنوة بهدف ـ حسب رأيهم ـ مسايرة المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة أكثر “مشيرا” بالإضافة إلى أن هناك من أضحوا يزاولون نشاطات أخرى بشكل علني وصريح خارج الأطر القانونية والقيم الأخلاقية موازاة مع وظيفتهم كأساتذة كالعمل الفلاحي والنقل والسمسرة، بحجة أن أجرتهم الزهيدة لا تؤمن مستقبلهم ولا تلبي احتياجاتهم الضرورية “.
وتحت عنون بارز (الامتحانات الرسمية) فهو ينطلق من الثناء عليها ويشيد بدورها الهام في قياس وتقييم قدرات ومهارات التلاميذ والطالبة ومدى استيعابهم لمختلف البرامج المتعلقة بالمواد التي درسوها في فترة معينة ويعني بذلك الشهادات الثلاثة (شهادة التعليم الابتدائي ـ شهادة التعليم المتوسط ـ شهادة البكالوريا) ويبرز من جهة أخرى بالقول “ونظرا لأهميتها فقد سخرت لها الدولة إمكانات مادية وبشرية ضخمة لتنظيمها وإجرائها بالتعاون مع عدة وزارات كالصحة والداخلية والدفاع فظلا عن أنها أنشأت فيما بعد مؤسسة الديوان الوطني للامتحانات والمسابقات حوالي سنة 1989 وأسندت له المهام الآتية: توفير الشروط الضرورية لإجراء الامتحانات والمسابقات ـ ضبطها وتنظيمها (التسجيل ـ الإجراء ـ التصحيح ـ المداولات ـ إعلان النتائج) ـ تحديد نظام الامتحانات واقتراح الرزنامة العامة وتنفيذها ـ إنجاز مواضيع الامتحانات وتوزيعها ومتابعتها ـ تصميم وتحضير جميع المطبوعات والوثائق المتعلقة بالامتحانات الرسمية” مضيفا في ذات المقال “أن هذه الشهادات الثلاثة من سنة 1963 إلى سنة 1990 كانت تجري في ظروف تنظيمية صارمة جدا ولا يمكن ان يتحصل عليها إلا التلاميذ المجتهدون والمثابرون مشيرا بفخر واعتزاز وبإشادة كبيرة إلى أهمية شهادة البكالوريا الجزائرية باعتبارها تحظى بالقبول اللامشروط في معاهد وجامعات الدول الغربية من بين الشهادات القليلة جدا في دول العالم الثالث لكن كاتبنا بعد ذلك يبدي تأسفه وبشدة إلى ما آلت إليه هذه الشهادة القيمة من اهتزاز وتضاءل فقدت فيه القيمة العلمية والمعنوية وهبتها في عقر دارها مرجحا الأسباب إلى “الفوضى الممنهجة والغش المنظم بالإضافة إلى تسريب المواضيع بالشكل المباشر وغير المباشر خلال إصلاحات 2003 / 2017” مما كان لها انعكاس سلبي على المستوى الدراسي والتحصيل العلمي للتلاميذ.
وفي الأخير لا يسعنا إلا أن نشيد بجهود الكاتب الذي استطاع أن يقدم لنا بمهارة واحترافية صورة واضحة ودون تزييف واقع التربية والتعليم وبأسلوب ساخر ونقد لاذع يحبس الأنفاس.