ثقافة

فجر مدينة محاصرة

قراءة في كتاب (تشرين غزة)

بقلم: عبد الله لالي

الحلقة الأولى:

هذا الكتاب هو فجر آخر في الكتابة العربية فجر يشرق بقصصه التي تتدفّق بتوقيت (طوفان الأقصى)، ويضبط جدائل أشعته الذهبية على نوتة القدس الجريح، جماعة من كتاب القصّة الجزائريين والفلسطينيين، يهدون غزة الشامخة عصارة أقلامهم عربون حبّ ووفاء، ونوعا من المشاركة النضالية/ الجهادية في (الطوفان المبارك) بالكلمة الصادقة والحرف الأبي الذي يقول: لا للذّلة والهوان، ونعم للثورة والجهاد ضدّ العصابة الصهيونية والغربية الظالمة.. !

كانت الفكرة من كاتب مبدع له باع كبير في كتابة القصّة، فاستكتب عددا من الإقلام التي تشرف بخدمة القضية الفلسطينية، وترى ذلك أقلّ القليل، أو جهد المقلّ، فكان هذا الكتاب وكانت هذة الولادة المباركة للمجموعة القصصية (تشرين غزة).

المجموعة مكوّنة من واحد وثلاثين قصّة، في حدود 112 صفحة صدرت عن  (دار الكتاب للطباعة والنشر)، ومن أبرز من كتب فيها من المشاركين نذكر صاحب الفكرة نفسه الأستاذ زين الدّين بومرزوق، والقاص الروائي جلالي عمراني والروائية عائشة بنور وزكية علال وعبد القادر صيد وعلي شدري معمر وفاكية صباحي ونسيمة بن عبد الله، وغيرهم من كتاب الجزائر وفلسطين المعروفين، ولا شك أنّ الاستجابة لهذه المبادرة تحسب لهم، وتدون في سجلهم الإبداعي الناصع.

وفي هذه القراءة سنحاول اختيار بعض هذه النصوص القصصية، ونعتبرها صواريخ وصليات حارقة تسهم في قطع دابر العدو البغيض، وتقف إلى جانب المقاومة في خنادقها لتقول لها، نحن هنا معكم بكل مهجنا وأرواحنا ولو نملك أن نحمل السلاح ونقف أمامكم في الخنادق الأولى ونفديكم بأرواحنا لفعلنا، ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك قِلّه، وسنفعل كل ما هو متاح أن نفعله في سبيل نصرة أرضنا وأهلنا في أرض الرباط.

ولا غرابة أن تكون أولى الطلقات القصصية من كاتب فلسطيني هو الكاتب الأديب؛ فائق خالد أبو شاويش الفلسطيني في خمس قصص قصيرة تتدفق قوة وتوهجا وهي (عكاز موسى/ بالحبّ نحيا/ طوفان الأقصى/ لم تسقط غزة/ هذا أنا). يقول في القصّة الأولى (عكاز موسى):”.. عندها وقفت منتصبا كعكاز موسى فقلت: من يبقى في غزة يبوء بالنبوءة..” هذه خلاصة القصّة المركزة من يبقى في أرض الرباط أرض الجهاد يفوز بالنبوءة كما فاز موسى عندما ضرب الحية بعصاه وشقّ بها البحر فكان الطريق يبسا وأغرق فرعون وجنوده..!

ويقول في القصّة الثانية التي بعنوان: (بالحبّ نحيا):”المكان يعجّ بالدّخان، والغبار سيّد الموقف، مرّت من أمامي شابة وجهها شاحب تسألني بصوت متصدّع: هل شاهدت طفلا يمرّ من هنا قبل الغارة ؟…).

هذا المشهد من القصّة يلخص كلّ شيء وينوب عن كلّ المشاهد في تصوير الأحداث، الغارة والغبار والأطفال بين قتيل وتائه وأمهات وأخوات أفئدتهم خواء تبحث عن السكينة التي عكرتها صواريخ العدوّ الغادرة، فمزقت الأسر وهدّمت البيوت، ولم تترك خلفها إلا اليباب..!

القصّة الثالثة من قصص الكاتب الفلسطيني  فائق خالد أبو شاويش بعنوان (طوفان الأقصى)، وهي اسم على مسمّى كما يقال، تصوّر مشاهد الفرح الأولى بطوفان الأقصى في غزة، وكيف استقبل النّاس خبر هذه المعركة الكبرى، معركة بداية الفتح ببهجة عارمة لا توصف، وبدموع فرح تودّع الشهداء وتطلّع كبير على موعد الحريّة الذي اقترب، القصّة الرابعة تعبّر عما أعقب الطوفان، فقد كان انتقام العدوّ شرسا وموجعا رغم صبر الأحرار وصمودهم، وجاء عنوانها كاشفا لمدلولها (لم تسقط غزة)، ونقتنص منها هذا المشهد المركز:

“في جولتي الأخيرة لم أجفل حين رأيت غزّة بحلّتها الجديدة تساءلت: هل حلَّ هولاكو هنا؟ ”

لم يجد الكاتب تماثلا تاريخيا يسقطه على ما فعله العدوّ الصهيوني بغزة سوى ما فعله هولاكو من قبل.. إنّه الدمار الشامل والاجتثاث الممنهج، لا يفوقه إجراما ولا قذارة إلا القول على الله غير الحق عندما قالت يهود: يد الله مغلولة وقولهم عزير بن الله، وقتلهم الأنبياء بقلوب هي كالحجارة أو أشدّ قسوة.. !ويختم الكاتب قصّته المدججة بالحزن البهي بقوله:”.. وأنا أهمس للرّيح في غزة سقطت كلّ الأبراج.. ولم تسقط غزّة”.

وفي قصّة (هذا أنا) موجز آخر للمعركة أجساد عارية ضدّ صواريخ ملتهبة، يختمها بقوله بمثل ما يشبه البيان الشعبي ضدّ الهمجيّة العسكرية الباغية:”وما زال السؤال يتردد: هذا أنا فمن أنتم؟ ”

هذه القصص الخمس للكاتب الشاعر الفلسطيني فائق خالد أبو شاويش، تبرز من بين النار والركام، وتقول ما يمكن أن يعبر عنه لسان رجل فلسطيني عاش المأساة بكلّ أوجاعه وقد تمازج في أسلوبه نفس السرد وروح الشعر، وصراخ ابن الأرض الذي يتأوّه للوجع ومع ذلك فهو يحمل راية المقاومة بيد مضرجة بدماء زكية تشع نورا..!!

المشارك الثاني في المجموعة هي الكاتبة جميلة طلباوي بقصّة تحت عنوان (تحت القصف)، ومن عنوانها بتضح مضمونها ومغزاها وهو يختزل في مشهد آخر من مشاهد المعاناة الغزاوية رغم التجلّد والصّبر على الجراح، تصور القصّة لحظة خوف طفل يحاول الاحتماء بأمه خوفا من الكلاب الضارية التي صارت تجول في مخيم النزوح وخوفا من القصف الذي لا يعرف متى تنزل صواريخه على الآمنين، وفي انتظار الأب الذي ذهب ليجلب قارورة ماء تبلّ ريقهم، لكنّه مع مجيئه تعاجل المكان قذيفة ماحقة تذهب بالماء وتذهب بمن في المكان، وصدى صوت أمّ تغني لابنها أغنية: (يالا تنام يا لا تنام لذبح لك زوجين حمام..” أسلوب الكاتبة جميلة مميز بلغته القويّة وقدرته على التصوير الدقيق وإيصال الفكرة مكثفة ومرمزة في أبهى صورها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يرجى تعطيل مانع الإعلانات.