
غراس الصيام في نفوس المؤمنين وقلوبهم بصالح الأعمال
قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ سورة الأنعام الآيات 162 ـ 163
مما لا مراء فيه أن العبادات التي شرعها الحق سبحانه وتعالى لها غايات وحكم تحقق صالح العباد في العاجل والآجل، أدرك المؤمنون تلك الغايات والحكم أم لا، وقد حاول العلماء أن يستظهروا تلك المعاني والغايات من تشريع الصيام، ويمكن ردها إلى تصنيفات عديدة:
أولا: الحكم والغايات الإيمانية، ويتجلى أبرزها في:
إظهار العبودية لله: فشعار الصائمين إظهار خضوعهم وتذلُّلهم لربهم ومولاهم، الذي فرض عليهم هذا الصيام؛ فكأن الصائم يُجدِّد عبوديته الله، ويعلن ولاءه وخضوعه المطلق للواحد جل شأنه مُحقِّقًا قول الحق: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ «الأنعام: 162، 163».
غرس مراقبة الله سبحانه وتعالى: وهي دوام علم العبد، وتيقُّنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه؛ فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه.. ، فيكون حارسا لنفسه من نفسه؛ لئلا يصدر منه ما يخالف مقتضى الصوم، إذ يعلم أنه وإن نجا من مراقبة الخلق، فلن يغيب عنه الخالق الله، فهو ﴿ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ «ق:16».
الإخلاص: فيغرس الصيام الإخلاص؛ إذ الصوم أمر قلبي، لايعلم حقيقته إلا الله ، وهو سِرٌّ بين العبد وبين ربِّه سبحانه وتعالى، لا يخالطه رياء، ولا يطَّلع عليه أحد سوى الله، ففي الصوم تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، فالنفس إذا تعايشَتْ مع هذه الرؤية، صارت متحليةً بالإخلاص، ويشير إلى هذا المعنى الحديث القدسي: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».
ومنها: أنه يعمق التقوى، ويُحقِّقها عند الصائمين؛ لأنه إذا انقادت نفس الصائم للامتناع عن الحلال؛ طمعًا في مرضاة الله تعالى، وخوفًا من أليم عقابه، فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام؛ فكان الصوم سببًا لاتقاء محارم الله تعالى، فالصوم يُنمِّي التقوى، التي هي امتثال الأوامر والنواهي، وهي الضمان لاستقامة الإنسان، وإليه الإشارة بقوله تعالى في آخر آية الصوم: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ «البقرة: 183».
ثانيا: الحكم والغايات السلوكية، ويظهر ذلك في أمور منها:
ضبط سلوك الفرد وتقويم اعوجاجه: فالصيام الحقيقي الذي يلتزم به الفرد المسلم يُعَدُّ خيرَ وسيلة لضبط سلوكه، وضبط أفعاله، وتقييد جوارحه عن المحظور، فيكتسب المسلم في هذا الشهر التأدُّب، والترقِّي عن طريق السلوك الحسن مع الآخرين، حتى وإن سابَّه أحدٌ، أو شاتمه، أو قاتله؛ فيكون سلوكه وتصرُّفه ورد فعله رد الذي تهذب وتربى بالصيام، متسقا في منظومة واحدة، وتحت شعار واحد: «إني صائم، إني صائم» .
ثالثا: الحكم والغايات التربوية تتجلى في أمور أبرزها
تهذيب النفس وتزكيتها: ففي الصوم تخليص للإنسان من رقِّ الشهوة العاتية، وفطامها عن المألوفات، والعبودية للمادة فالنفس إذا شبعت تمنَّت الشهوات، وإذا جاعت امتنعت عما تهوى، وعلى ذلك فالصيام يُحقِّق التخلية والتحلية؛ فالتخلية من خلال التحرُّر، والبعد عن الشهوة طواعية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، والتحلية بالترقِّي، والسمو بالعبادة والطاعة مما يترتب عليه تحلِّي النفس وتزكيتها.
تربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها: إذ يكون الطعام والشراب أمام الإنسان ويترك كل ذلك لله، وكذلك إشعار للإنسان بأن الحريات مقيدة لخير الإنسان، وخير الناس الذين يعيشون معهم والإنسان إذا تحرر من سلطان المادة تحصن من الأخطار التي ينجم أكثرها من الانطلاق والاستسلام للغرائز والأهواء، ولهذا المعنى أشار النبي بقوله: «يا معشر الشباب، من استطاعَ منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء».
تربية النفس وتعويدها على الصبر والتحمُّل، فللصوم علاقةٌ وثيقةٌ بالصبر، فيُسمَّى الصوم صبرًا؛ لما فيه من كفِّ النفس البشرية، وحبسها عن كلِّ مُفطِر من طعام أو شراب أو شهوة، وإلى هذا المعنى جاء حديثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الصَّوم نِصْفُ الصَّبْر»، وبعد ذلك ينطلق الإنسان نحو تعميم قيمة الصبر الذي تربَّى عليها في شهر رمضان من خلال صيامه على جميع أنواع حياته الأخرى، فيصبر على تحمُّل مشاق السعي وراء الرزق، ويصبر على آلام المرض، ويصبر على متاعب الحياة ومصائبها.
رابعا: الحكم والغايات الإنسانية: يتجلى أبرزها في إظهار المساواة بين المسلمين جميعا: ففي شهر رمضان يعيش المسلمون حياة المساواة المثلى الواقعية من خلال صومهم، هذه القيمة التي يُربِّي عليها الإسلامُ أتْباعَه، ويُثَبِّتها في نفوسهم من خلال أقوالهم، وأفعالهم ونشاطاتهم من عبادة وحركة حياة، فيبدأون الصيام في وقت واحد، وينتهون في وقت واحد، لا فرق بين أبيض وأسود أو أعجمي أو عربي، فالكُلُّ في القُرْب من الله أو البُعْد عنه بحسب تقواه وعمله الصالح ؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ «الحجرات: 13».
خامسا: الحكم والغايات الطبية للصيام
الحكم والمعاني الطبية للصيام حكم تبعية، تخدم معاني الصيام الأصلية، وتدل على عظمة الشارع في كل أحكامه وتشريعاته، فلا ينهى إلا عمَّا فيه مفسدة بالعباد، ولا يأمر إلا بما فيه النفع والخير لهم.
ومن أهم الفوائد الصحية للصيام أن فيه: راحة الجسم، وإصلاح أعطابه، وامتصاص المواد المتبقية في الأمعاء التي يؤدي طُولُ مكثِها إلى تحوِّلـها لنفايات سامَّة، وتحسين وظيفة الـهضم، وإعادة الشباب والحيوية إلى الخلايا والأنسجة المختلفة في البدن، وتقوية الإدراك، وتوقُّد الذهن، وتجميل وتنظيف الجلد
وفي الجملة فالصيام “هو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين فيه ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته”.
الحسين عبداللطيف