
كانت كل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم تشي بتواضع جمٍّ، لا مثيل له ولا نظير، فكان لا يقلد أرباب الجاه والسلطان – وهو أوجههم وأعظمهم – في اتخاذهم مجالس يجتمع لهم فيها ذوو الأغراض والمناصب، مع أنه لو فعل ذلك ما كان عليه من حرج، إلا أنه ليس له في ذلك حاجة؛ لأن مجالس هؤلاء مظهر من مظاهر فخر زائل، وأثر من آثار عز حائل.
أما مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مظهر من مظاهر عظمته وجلال قدره، وحسب من يجالسه من الصحابة الكرام أن تصيبهم نفحة من نفحات عظمته وجلاله، فترفع لهم شأنا وتقيم لهم بين العالمين قدرا.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا استقبل في مجلسه أحدًا، أقبل بوجه باشٍّ كله بشر وسرور، فإذا صافحه لم ينزع يده الشريفة من يده حتى ينزع القادم يده أولاً، ولا يصرف وجهه الكريم عنه حتى يكون هو أول صارف لوجهه، فإذا استقر في مكانه بالمجلس وحدثه صلى الله عليه وسلم أقبل بوجهه وحديثه إليه، حتى لو كان من أشر الناس في تألفه بذلك.
وكان مجلسه مجلس علم وحلم، وحياء وسكينة، وصيانة وأمانة، تُتلى فيه آيات الله تعالى، وترسى فيه الآداب والأخلاق، وتغض فيه الأصوات، ولا يجهر فيه بالقول، وتصان فيه الحُرم، ويكثر فيه الكرم، وتتنزل عليه النعم وترفع عنه النقم، الملائكة تحضره وتحفه، والله سبحانه وتعالى يذكر حاضريه فيمن عنده، ضعيفه قوي بإيمانه، وقويه متواضع بمقامه، وكبيره يُوقَّر، وصغيره يرحم، وكريمه يكرَّم، ولا تفاضل فيه إلا بالتقوى والعمل الصالح، ولا يُخلَى حتى يلين الجافي، ويستكين المتعالي، ويهذب وحشي الطباع، وتقضى حوائج ذوي الحاجات، فإذا انفض المجلس – وما أصعب ذلك على الحاضرين – لا يقومون إلا على ذكر الله، فيقولون: “سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك”. رواه مسلم.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا، فقمنا إليه، فقال: “لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا”.
وقال: “ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار”.
وقال: “من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة،ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة”.وفي لفظ: “وما مشى أحد ممشى لم يذكر الله فيه، إلا كان عليه ترة”، وقال صلى الله عليه وسلم: “مَن جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. إلا غُفِرَ له ما كان في مجلسه ذلك” وروى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك إذا أراد أن يقوم من المجلس، فقال له رجل: يا رسول الله، إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى. قال: “ذلك كفارة لما يكون في المجلس”.