
كاتب صحفي قادته فطرته ليكون مراسلا حربيا بحرب تموز عام 2006، عاش خلالها الصراع الوجودي في الشرق الأوسط، فقد كان ليكون حسبه “مشروع الرجل القتيل لا محالة والجثة المؤجلة الى حين”، إلا أنه استطاع رغم الجبهات الكلاسيكية المفتوحة على المسافة الصفر أن يقدم تحقيقات وتقارير من المأساة الإنسانية تاركا الموت خلفه، وباعتباره أيضا صياد الشخصيات الحربية، أقصد بذلك “نبيه بري والجنيرال ميشال عون” ضمن مذكرات “على خط النار مع إسرائيل.
حوار: رقية لحمر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“على خط النار مع اسرائيل” مذكرات مراسل حربي، كتاب وثقت فيه لحرب لبنان تموز لعام 2006، كمراسل حربي، كيف مكنك التعامل مع تاريخ لبنان الحربي الذي لم تختبره على الصعيد الشخصي، لنقل أن لبنان بلد الثقافة والفن ثم بلدا للحرب؟
على المراسل الصحفي قبل أن يتناول أي موضوع أن يكون لديه إلمام مسبق عن طبيعة البلد على أوضاعه السياسية، الاقتصادية، هذا ما يمكنه في فهم طبيعة ما يجري في ذلك البلد. لبنان كما هو معروف كان في السبعينات يلقب بـ “سويسرا العرب”، وكان بلد منتج دائم للثقافة والكتابة والفنون والطباعة نظر للدور الكبير الذي لعبه مسيحيو الشرق في ذلك، وكانوا الأسبق في تبني وسائل العالم الحديث وأنتجوا مفكرين وساهموا في تطوير البلد، لكن من جهة أخرى البلد يعاني من أزمات متعددة، أولها الطائفية السياسية، التي تؤثر دائما من خلال ظهور نزاعات أخرها الحرب الأهلية المدمرة التي عشاها البلد بين 1975 و1990 لمدة 15 سنة، ثم كذلك هنالك اضطراب سياسي دائم نظرا للتركيبة الطائفية والصراعات التي حولت هذا البلد الى ساحة حرب، لنقل بين دول إقليمية ودولية.
ما التساؤلات التي كنت ترى أنها الموضوعات الأنسب ليكتب عليها في الحرب؟
خلال تغطيتنا للحرب، كنا مطالبين بكتابة التقارير الحية وربما بعض الاخبار التي لا ترد كثيرا في القنوات والأنباء، لم نكن مهتمين بكرونولوجية الحرب والأحداث التي تحدث يوميا، لأننا لن نكون اسرع من القنوات الفضائية التي تملك مراسلين ووكالات الأنباء هناك، نحن نركز على التحقيقات مثلا التي تلي القصف والمجازر والقصص المجاورة المرتبطة بمآسي أخرى إنسانية لننقل الطبيعة المباشرة للحرب على الناس، بالإضافة الى ذلك تطرقت في المذكرات للجواسيس وتأثيرها على الحرب لأنه في تلك الفترة كانت هنالك ضجة كبيرة حول مئات الجواسيس الذين مكنوا الطيران الإسرائيلي من تحديد الأهداف من خلال إشارات وما الى ذلك، وبعض القضايا المتعلقة بالجزائر بالجالية المقيمة هناك، المتطوعون في الحرب رغم ان “حزب الله” لا يقبل المتطوعين، وما الى ذلك من الأمور التي تعكس الخلفية الماورائية للحرب وتمنح نظرة شاملة عن الأوضاع هنالك بما فيها الصراعات الداخلية.
أثناء خطواتك الأولى نحو لبنان، بدءا من لقائك بمدير جريدة الشروق أنيس رحماني، ثم تكليفك بالمهمة، الصورة الذهنية لحرب التحرير التي خاضها والدك ومساندة والدتك له، ثم سماح والدتك لإعادة التجربة مجددا لنقل من منظور ابنها، ومشروع الرجل القتيل لا محالة والجثة المؤجلة الى حين، سيكولوجية حرب، هل كانت كل هذه الصور قاتمة لديك للغاية اثناء وجودك في ساحة الحرب؟
ليس في ساحة الحرب، قبل ساحة الحرب، لأن الصحفي قبل أن يذهب الى تغطية الحرب، والحرب ليست رحلة سياحية او تسونامي أو زلزال، بمعنى ظاهرة طبيعية حدثت وانتهت، ليأتي الصحفي ليغطي ما وقع، الحرب تختلف تماما لأنها مفتوحة على جميع الأصعدة والانسان يمكن أن يفقد حياته في لحظة خاصة وأنها ليست حربا كلاسيكية بجبهة قتالية على اليمين وجبهة قتالية على اليسار، والصحفي يمكنه أن يتموضع حيث يريد، كانت عبارة عن قصف مركز، ولا أحد يمكن ان يتحاشاه خاصة اذا ما تواجد في المناطق الخطرة أثناء تأديته عمله وبالتالي هناك صحفيين قتلوا من بينهم مصورة لبنانية قتلت خلال تغطيتها لهذه الحرب في تلك الفترة فالخطر دائم ويمكن ان نقول أنه من المسافة الصفر، لأن قصف قذائف الطيران سريعة جدا ولا يمكن أن نتوقعها وليس هنالك حيلة لتفاديها لأنها تقع دون أن يكون هنالك اعلان مسبق، فهنا تكمن هذه الخطورة، وطبعا القرار قبل الذهاب الى المعركة هو الأصعب لأن هنالك ضغوط هائلة يجابهها المراسل من الأصدقاء والأقارب، لأنه ذاهب الى ساحة من المحتمل أن لا يعود منها أبدا، وحتى وإن عاد ممكن ان يعود مشوها أو معاقا وهذا أصعب من الموت بقذيفة.
أعتقد أنك اردت ان تعيد بطولة والدك من خلال تغطيتك لحرب لبنان، هل ذلك ما جعلك حقا تتجه صوب المجهول وتتقيأ خوفك؟
هنالك أشياء تحدث للإنسان دون أن يكون له تخطيط، ربما هنالك عقل باطن، من الصعب على الإنسان أن يجيب على سؤالك، وهذا ملموس، عندما كتبت رواية الجونكيرا أردت إعادة قصة والدي، وجدتني أكتب قصص مشابهة الأبناء في علاقتهم مع ابائهم، من خلال علا الزهواني مع علا الطلياني، عمار مع والده خاليس، وكذلك هنالك قصة أخرى سيفو مع والده، دون شعور وجدتني أرسم ثلاث قصص موازية للرغبة التي كنت أريد، وبالتالي قد يكون وقد لا يكون ذلك.
ثمة ما يقال أن المراسل الحربي “عينان تجمعان الحقيقة وقدمان تهربان على الرصاص”، لاوجود لجبهات كلاسيكية القتل والموت من المسافة صفر، أعتقد أن القواعد التي تدربت عليها ساعدتك على تخطي الأمر، أليس كذلك؟
أولا أن لم اتدرب على القواعد قبل ذهابي الى الحرب، ولم أتلقى أي تكوين في كيفية تغطية الحروب، ومناطق النزاع، بل من خلال ممارستي لمهمتي كنت الجأ على بعض الطرق الفطرية لتفادي بعض المخاطر وهذا ما ذكرته في عدة مواقف في المذكرة، لكني فوجئت بعد ذلك في سنة 2015، أوضح “أنا شاركت في تغطية الحرب سنة 2006″، وبعد عشر سنوات من الحرب استفدت من تربص من المؤسسة الألمانية “أديناور” وأدركت هنالك أن ما كنت أطبق دون دراسة عن طريق التحليل والفطرة واستقراء الأوضاع كان من بين القواعد التي تدربت عليها لاحقا، وهذا يعني أن هنالك أمور توافقية، وهذا ما نجده في اللغة العربية، ستجدين أن بدوي لا يدرس في حياته قواعد اللغة العربية يمكن ان يستعمل تلك القواعد دون أن تكون له دراية بها، وبالتالي فالقواعد غالبا ما تستنبط من التجربة والسلوك.
مذكراتك تبدو عابقة بنكهة سياسية حربية وادبية ومازحة في آن، هل انتابك شعور أن هذا النوع “السهل المعقد” من الكتابات ما يجلب القارئ للتصويب جيدا لانتقاء المؤلف؟
طبعا، فنحن نقول في الرواية هي القصة التي يمكن أن ترويها بالطريقة المناسبة، أي بطريقتك، فعندما نكتب علينا أن ندرك طبيعة القارئ ورغباته وأن لا نطيل عليه وأن لا نستعمل اللغة الجافة، وأن نكون سلسين في التعبير وطبعا، مع أن المذكرات هي عرض لحياة شخصية في حرب، فمن الطبيعي أن يكون الجانب العاطفي من خلال العلاقة مع والدتي، فقد أردت أن أنقل القارئ من البداية في عاطفة الأمومة ثم بعد ذلك التدرج مع القارئ بالتفصيلات المتعلقة بكيفية الوصول أثناء الحرب بعد عديد الحوارات التي أجريتها، وكل ما يدور في فلك الحرب، وكل ذلك يجب أن نقدمه بطريقة فنية جميلة لأن الإنسان بطبيعته يتمتع بالجمالية حتى لا يشعر بالملل، ويلمس التشويق ويكون مستعدا لإكمال النص حتى اخر حرف فيه، وطبعا هذا مقصود، دعيني أخبرك، منذ أسبوع أنجزت تقريرا فأعجبتني كلمة قالها لي أحد الذين استجوبتهم، فيما يخص بيان اول نوفمبر، قال “بيان أول نوفمبر كتبه رواد الثورة التحريرية بطريقة شعبية يفهمه جميع الناس، أما بيان البشير الابراهيمي فقد كتبه بلغة لا يفهمها إلا الجاحظ، وبالتالي عندما نخاطب الناس علينا ان نكتب بطريقة تجعل ما نطرحه مفهوما لدى الطبيب وبائع الفول، لهذا استشهد دوما بحسنين هيكل، لأنه قدم العلاقات السياسية المعقدة في الشرق الأوسط بطريقة أدبية وصحفية سهلة يفهمها كل شخص، مهما كان مستواه لأن العبرة بتوصيل الرسالة بأسرع طريقة ممكنة وببلاغة وكناية واستعارة وكل المحسنات التي ندرسها ليكون النص جميلا، وإلا فما فائدة هذه البلاغة وما تم ذكره إذا لم نطبقها في نصوص تمنحها الحياة.
هل انتابك القلق في لحظة ما، أنك لن تؤدي المهمة بالشكل المطلوب، في ظل رفض بعض التغطيات التي كانت تحمل معلومات سرية وخطرة للغاية، ماذا لو نشرت في تلك الفترة، كيف كان الامر ليكون؟
عندما كتبت التقرير ضمن أربعة الاف كلمة، لم ينشر لأن ذلك يعد من أساليب حماية الصحفي فقد كنت في تلك الفترة متواجدا في لبنان، ربما لو نشرت في تلك الفترة لتعرضت لبعض المضايقات، هو حماية للصحفي في أداء عمله، دعيني أخبرك أنه من قواعد السلامة ان بعض الأسرار لا يمكن كتابتها أصلا، ولربما تندرج في اطار أسرار الدولة، وبعض المواضيع لا يمكن أن تنشر والشخص موجود في بؤرة الصراع.
دعني أقل أنك “صياد شخصيات حربية بالفطرة”، أقصد بذلك نبيه بري والجنرال ميشال عون، هل ترى أن هذا الصيد الثمين ما جعلك تشعر بالرضا وتنهي مهمتك بشكل ارتياحي؟
طبعا، فجميع الصحفيين الذين كانوا في لبنان أرادوا اجراء حوار خاصة مع الجنيرال ميشال عون، نبيه بري كان الشخصية المحورية في تلك الحرب باعتباره قاد المفاوضات مع الهيئات الأممية والاسرائيليين والامريكيين والفرنسيين والمصرين وغيرهم من اجل انهاء الحرب والوصول إلى بنود الاتفاق، نبيه كان الشخصية الأقدر على تقديم معلومات مفيدة للقارئ والعالم ككل، فكان الوصول اليه هدف كل صحفي ومطلوبا من طرف 200 صحفي، عندما أنهيت الحوار انتهت مهمتي كمراسل حربي، لأني حضرت الحرب وقمت بتغطيتها ثم حضرت ما بعد الحرب وأنجزت حوارات وتحقيقات، فاكهة زينتها مع نبيه بري لأنه كما قلت كان الشخصية رقم واحد المطلوبة من طرف جميع وسائل الاعلام الدولية.
مشاهد من الدمار والبؤس والاغتيال والقتل الإنساني في أبشع صوره، ألا زالت رائحة الحرب تتسلل اليك بعدما أنهيت مهمتك، سيكولوجية ما بعد الحرب؟
لا أظن، هنالك نوع من الحنين إلى العمل في تلك الظروف أي “التغطية والعيش في دائرة الخطر لقاء أشخاص في اطار العمل وأصدقاء هنالك في لبنان هي الأشياء التي افتقدها، أما سيكولوجية ما بعد الحرب فلا اعتقد ذلك، لأن تغطية الحرب منحني وعيا اكبر لفهم طبيعة الصراعات الدولية وكيفية فهمها فقد لاحظت أن الكثير من الناس، يكتبون عن الشرق الأوسط أو عن لبنان أن دون أن يفقهوا شيئا على ما يجري في أرض الواقع، من بينها طبيعة الحرب والمجتمع اللبناني، فهنالك من يقارنها بالتجربة الجزائرية وهذا خطأ، الحرب هنالك من نوع خاص، حرب الجيل الخامس لا تعتمد على الشجاعة الا نادرا هي حرب تكنولوجية بالدرجة الأولى وتحددها ثلاث عوامل رئيسية هي المسيرات والصواريخ الموجهة والحرب الصبرانية.
هل تعتقد أنك كتبت كل ما يجب أن يكتب، أم أن هنالك تفاصيل لم تود أن توردها في المذكرات؟
عندما نكتب مذكرات، في الغالب نحتفظ بالأشياء الجوهرية، وأنا اخترت طريقة انتقائية للمواقف والمشاهد على شكل صور، قبل الحرب واثنائها وبعدها، لرواية ما يمكن روايته وليكون مفيدا وممتعا ومسليا، هنالك الكثير من الأمور التي تجاهلتها في تقديري أنها لا تستحق أن تكتب أو ربما لكي لا تكون المذكرة أكبر من حجمها الحالي.
ما أكثر الأشياء ايلاما أثناء تغطيتك لحرب لبنان؟
هي صورة السيدة انعام نورالدين التي كتبت عنها، هي امرأة لم تنجب أولادا ثم صرفت كل مدخراتها في اجراء عملية “أطفال الانابيب” لتبشر بعدها بتوأم وهي التي كانت تنظر ولدا أو بنت، لتضيع الجنينين خلال قصف حي الشياح، فانتابتها صدمة من شدة الفزع، أجهض الجنينان وفقدت الأمومة في لحظة جنونية.
المشهد الثاني يعود لشخص رأيته في حديقة الصنائع يبدو أنه من عادته أنه كثير الاستمتاع الى الراديو، وعندما فجر منزله وفقد أهله فقد سمعه أيضا، لكنه حافظ على عادة حمل الراديو رغم أنه لا يسمع شيئا وكأنه يريد أن يتذكر تلك الحركة التي كان يقوم بها، هاتين الصورتين كانتا الأكثر ايلاما بالنسبة لي.
ما الذي يمثله لك المراسل الحربي روبرت فيسك؟
روبرت فيسك البريطاني من اكبر المراسلين الحربيين، موضوعي جدا وألف الكثير حول جميع حروب الشرق الأوسط، ويعد من المراجع الكبرى في تغطية حروب الشرق الأوسط، والغريب الذي لاحظته أن الكثير من الصحفيين الذين يكتبون بالعربية غطوا جميع هذه الحروب لكنهم لم يكتبوا مذكرات تتعلق بالحرب إلا روبرت فيسك، ومن المعيب حقا أن يكتب الآخرون عن قضايا نحن الأحرى بالكتابة عنها، وهذا ما حاولت القيام بها هو كتابة مذكرات بقلم جزائري يمكن أن يكون مرجعا خاصة لطلبة الاعلام كي يكتشفوا أن هنالك تجربة جزائرية، ولست وحدي بل هناك الكثير من الزملاء الذين يمكنهم أن يثروا المكتبة الجزائرية من هذا الجانب، هنالك ستة أو سبعة صحفيين شاركوا في تغطية الحروب مثل زميلي رشيد، وبوطاب شبوب وكذلك ناهد زرواتي ومواقي وصحفيين اخرين في جريدتي الخبر والوطن الذين حضروا حرب 2006.
لم أتيحت لك فرصة أن تكون مراسل حربيا بغزة، هل ستذهب بنفس الشغف والشجاعة، أم ان تجريب الشيء لا يعدو أن تكون اعادته مجازفة حقيقية؟
حقيقة تختلف الظروف، تغطية الحرب في لبنان تختلف عن تغطية الحرب في غزة، لأنه يمكنك الذهاب الى لبنان عن طريق الطائرة أو الحدود مع سوريا، ولا يحدث ذلك مع غزة فالصعوبة ليست في الرغبة بل في التنفيذ، فجميع المعابر مغلقة، وهنالك تضييق كبير لا يسمح بدخول صحفيين.
هل تفكر في تقديم أعمال أخرى تمس الحرب، وهل تحويل مذكراتك الى عمل سينمائي وارد؟
ممكن لروايتي “الجونكيرا والميزونة” فقد ابدى العديد من المخرجين والمنتجين استعدادهم لتبني الروايتين كعمل سينمائي دون أن تنفذ، أن تروى مذكرات مراسل في مشهد سينمائي ربما كتجربة فريدة أن تقدم، لست ادري ان كان ذلك سهلا، فهي مفيدة على صعيد الحبكة والصراع ولكن من ناحية الشخصيات فلا توجد هنالك شخصيات مشتركة، هي لوحات منتقاة من 30 يوما خلال تواجدي هناك، ليس هنالك روح للرواية في كتابة المذكرات على الرغم من انها كتبت بطريقة روائية لسبب فني بسيط وهي أن تكون ممتعة ومشوقة وقابلة للقراءة.
تغطية الحرب في لبنان انتهت، ربما اكتب مذكرات حربية اذا أقدمت على تجربة مراسل حربي أخرى.