
كيف نعيش اليوم أزمة الفيروس الذي تحول إلى جائحة تثير هلع العالم كله. ثم تطورت بسرعة أنماط كثيرة من الخطابات التي يقع أغلبها في المجال السياسي.
السياسة هي الخطاب الأكثر تداولا في التاريخ. السياسة فن/أو لا فن تسيير شؤون البشر. لهذا فكل ما يرتبط بالسياسة يرتبط بالضرورة بالحياة لأنه يعني كثيرا من الناس.
دار الحديث كثيرا حول نظرية مؤامرة عالمية. نظرية كثيرا ما صورناها على شكل جهاز سياسي سري يتحكم في العالم عن طريق التسيير الخفي لشؤون البشر مستعملا الخوف من سلاح فتاك ما يقع بين أيد غير حكيمة. تبدأ نظرية المؤامرة في المخيال العالمي من اكتشاف شخص من خارج دائرة الجماعة السرية لهذه الأشياء كلها.
الجديد في عالمنا هو أن نظرية المؤامرة قد تحولت على نظرية للخطاب لا نظرية للسياسة. لهذا نجد أن الأدب (والخيال العلمي سيد محترم في هذا الأمر) كثيرا ما يضطلع بمهمة تمثيل نظرية المؤامرة.
نظرية المؤامرة تؤمن دوما بأن هنالك تنظيمات خفية تسير الشأن العام على مستويات كبيرة وعميقة مع الاجتهاد الكبير في إخفاء اثر هذا العمل. الأدب أيضا نجد أنه قد التصق – خصوصا عندنا نحن في الشرق- باستراتيجيات المجاز. أو بطرق الإحالة المستمرة على عوالم تبتعد عن الواقع بمبرر جمالي في كثير من الأحيان ولكن بلا مبررات واضحة في كثير من الأحيان. يتصل ذلك بما سماه هارولد بلوم في كتابه الهام the anxiety of influence بتجريد الذات والعالم، أي أننا لكي نحقق أدبية الأدب علينا أن نأخذ موادنا التخييلية إلى عالم خارج الزمن وخارج المنظومة الكونية، يسمي رولان بارط هذا الأمر بالفضاء الدلالي ويضعه بعيدا عن الخيال وعن الواقع/ المرجع.. هو فضاء ثالث ناتج عن مسارات الكتابة، يتجاوز الواقع صوب تصورات مركبة وتشكيلية لهذا الواقع، ثم يتجاوز هذه العوالم صوب فضاء تتقاطع فيه كل هذه الأشياء لإنتاج دلالة معينة تستدرج القارئ من خلال معانٍ خوافيها أكثر من ظواهرها.. وهذا ما وصفته أنا مرارا بعمل المنظمة السرية… الأدب يشكلنا بعمق بعيدا عن وعينا بهذا الفعل. وهو يفعل ذلك بنية أنه يحسن عملا. وهذا جوهر المنظمات السرية التي تتعالى على الواقع السياسي والتاريخي بحسن نية، مع عدم ضمان للنتائج، وهنا يكمن خطر عمل المنظمات السرية (وخطر الأدب أيضا).
بدأت الجائحة على شكل قصص وروايات وأفلام (أي قصص مفلّمة)… وكثيرا ما يبدو أن ما تفعله هذه القصص هو تحضيرنا لهذا العالم الكوارثي الغريب المريع الذي سوف يلحق بنا مباشرة بعد نهاية بث الفلم. والجميل – في المطلق – أننا سنكون قد حضرنا أنفسنا للسيناريو الأسوأ حتى نتعامل بطواعية مع زمن الأزمة.
النصوص الروائية – بحكم كونها خطابات – هي طريقتنا في تصور مسارات المعنى. النصوص محاولات لصياغة المعنى، ولكن النصوص تبقى خامات نفعل بها في تداولنا ما نشاء. إذا درس الواحد منا المعلقات فإنه يمكنه أن يقف معها عدة وقفات: إعجاب بالوجدان العربي. وصف دقيق لنظام الأخلاق وجداول القيمة عندهم، عجز عن تجاوز أفق القبيلة السياسي. غياب كلي لتصور العالم خارج إطار الصحراء. إهمال لثقافة البحر رغم آلاف الكيلومترات من السواحل العربية التي كان العرب وقتها يعرفونها وبعايشونها ويقتاتون من خلالها ويمارسون التجارة والصيد والجوار معها… وكل ذلك غفلت عنه المعلقات…
يمكننا أن نسائل المعلقات ألف سؤال. وكلها تولد خطابات بعضها ذو توريطات إديولوجية، وبعضها فيه إحراج للمدونة التاريخية على أساس مخرجاتها التاريخية والمجتمعية… اما فيما يخص موضوعنا الحالي فعن دور الخطاب هو ضخ مقترحات محيالية جديدة. أي تطعيم الواقع بمواد متخيلة سوف لن يطول الوقت قبل أن نجد ـأنفسنا محملين بردود فعل – كأنه شكل من أشكال البرمجة- معدة سلفا للتعامل مع وضعيات جديدة لا قبل لنا بها.
لهذا نكرر دوما في المنابر الجامعية التي تجمع الفلسفة إلى الأدب فكرة مفادها: أن سلطة الخطاب سلطة نوجدها نحن من خلال تعاطينا للمعنى.
ولنتصور معا رواية فيها صياغة لأزمة الكورونا حسب تسميات مختلفة. لمحاكمة هاديغير وسؤاله عن مدى مساهمته في الخراب الهتلري بما أنه كان منخرطا مع النازيين، أو تصوري رواية أو مقالا فيه سؤال محرج لهيغل حول صمته المطبق على العرب والمسلمين ودورهم في التاريخ.. هل يمكن لفيلسوف يبدو أنه أحاط بكامل معارف العالم على أيامه أن يصمت صمتا شبه كلي عن أمة برمتها كان لها دورها؟
ستكون هذه الخطابات الخيالية ذات سلطة واقعية كبيرة رغم عنوان “التخييل” الهام الذي تعودنا نحن المشارقة على عده عنوانا استصغاريا بسبب الخطأ الكبير في ربط التخييل الذي هو نشاط عقلي ضروري لفعل التفكير، بالوهم الذي هو حصيلة خائبة في مسار البحث عن الحقيقة.
أين تسكن الحقيقة إذن؟
إنها تسكن في البيت الواهي المتلون للإيديولوجيا.
الإيديولوجيا مثل الروح. هي تعبر كل شيء في حياتنا. كما اقول دوما يوجد قليل من الإيديولوجيا حتى في طريقة جلوسنا إلى طاولة الفطور وتناولنا قهوة أو فطيرة.. الإيديولوجيا تموقع للذات، ولا مهرب لنا من هذا التموقع حتى في أبسط الأشياء. نحن أبناء عاداتنا، ومخاوفنا، وطريقتنا في ممارسة الأشياء بوعي أو بلا وعي.
السؤال المنطقي هو التالي: هل مسألة الجائحة والكارثة الصحية التي يمر بها العالم خاضعة للإيديولوجيا؟
ما هي الإيديولوجيا التي تستفيد مقولاتها من الرعب العام للناس أجمعين؟
الأجوية كثيرة. كثيرة جدا. قد تكون الرؤية الكوارثية للعالم طريقة في الوعي به. أي إنها إيديولوجيا .
العداء الشرس الذي يتحدث عنه جاك رانسيير في حق الديمقراطية أيضا قد يكون إجابة لهذا السؤال. (جاك رانسيير عنون كتابه بكل وضوح: استعداء الديمقراطية la haine de la démocratie )…
لقد سمحت الجائحة كما يقول كثير من المعلقين بطي ملفات الطلبات الاجتماعية الكثيرة والمتزايدة التي لا يوجد لها حل في ظل الديمقراطية وعبادتها للحريات الشخصية وللحق في المطالبة بعالم أفضل.
تبقى الإيديولوجيا سلاحا ذا حدين، فنحن نفعل بها (ولها) ما نشاؤه؛ إذ يمكننا (نظريا) تحويلها إلى طاقة دافعة صوب البناء، كما يمكننا فعل العكس بها (وهذا ما نحن بصدد فعله في الحقيقة). في نهاية الأمر هنالك إيديولوجيا ساعدت روسيا على الانبعاث من رماد كانته منذ أربعين سنة، وهنالك إيديولوجيا مقيتة فككت بلدانا عربية مثل العراق وليبيا، وليست إيديولوجيا الغزاة التفسير الوحيد لما حدث ويحدث عندنا، بل إن هنالك حاضنة محلية لكل هذا الاستعداد للعداء وللشقاق هي التي مهدت للغزاة.
وبالشكل نفسه سوف نرى الجائحة تلبس لبوس الحداد ونحضر جنازاتنا لأن كل المؤشرات الخطابية تقول بقتامة ما يقتبلنا من وقت وظرف اقتصادي…
تلزمنا خطابات جديدة من الصعب التفكير فيها لتصور غد قادم بعد الغد الكوارثي. غد خطاباته صماء بكماء لا تسمع حجرا.
فيصل الأحمر