
صلة الرحم.. توثيق لعرى القرابة والمودة وتجاوز للعداوة والشحناء
قال تعالى: “فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ * أُولئكَ الَّذينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أبْصَارَهُمْ”. سورة محمد الآية 22 ـ 23
يقول المولى جل وعلا حاثا على صلة الرحم، وترغيبا في فضلها: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ [النساء: 36]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: 90]، وقال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: 26]، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرم ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليَصِل رحمه))؛ متفق عليه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن أحبَّ أن يُبسَط له في رزقه، ويُنسَأ له في أثره، فليَصِل رحمه))؛ متفق عليه.
وعن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه؛ أن رجُلًا قال: يا رسول الله، أخبرْني بعملٍ يُدخلني الجَنَّة، ويُباعدني من النار، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تَعبُد الله ولا تُشرك به شيئًا، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتَصِل الرحم))؛ متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كان أبو طلحة أكثرَ الأنصار بالمدينة مالًا مِن نخلٍ، وكان أحبَّ أموالِهِ إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَدخُلها، ويَشرَب مِن ماءٍ فيها طيبٍ، فلما نزلت هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:2]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وإنَّ أحبَّ مالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقةٌ لله تعالى أرجو بِرَّها وذخرَها عند الله تعالى؛ فضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ((بخٍ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أَفعَل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه))؛ متفق عليه.
وعن أبي سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه، في حديثه الطويل في قصة هرقل؛ أن هرقل قال لأبي سفيان: فماذا يأمركم به؟ يعني: النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: قلتُ: يقول: ((اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة))؛ متفق عليه.
فكل هذه الآيات والأحاديث جاءت في فضل صلة الرحم، وأنها من الأعمال الجليلة العظيمة التي تُرْضِي ربَّ العباد، وتُوصِّل إلى الجنَّات.
ومعلوم أن صلة الرحم علاقة عظيمة بين أفراد الأسرة الواحدة، فهي تُنمِّي بينهم المحبَّة والإخاء، وتقوِّي بينهم صلة القربى، فتجد الغنيَّ يعطف على الفقير، والقويَّ يساعد الضعيف، والصحيح يزور المريض، وهكذا تجد أفراد الأسرة متعاونين على الخير، فيجتمعون في الأعياد والمناسبات، وفي المصائب والآلام، ويَسأل بعضهم عن بعض، فيتوادُّون ويتراحمون، ويترابطون رباطًا وثيقا كما ذكر الله ذلك في كتابه، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ [الرعد: 21]، فَيَعُمُّ الخيرُ، وتزداد الصلة، وتقوى المحبَّة، فما داموا متمسِّكين بما أمر الله به فَهُم على طريق الهدى والرشاد.
وثمرات الصلة كثيرة جدا، ومن ذلك ما أعده اللهُ للواصلين من الأجر العظيم، والثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، وأيضًا سعة الأرزاق، وطول العمر، والبركة في المال والولد، وغير ذلك كثير.
إن صلة الأرحام مما قصر فيه الكثيرون في هذه الأزمان المتأخرة؛ نظرا لانشغالهم بالمُلْهِيَات والمغريات، وحطام الدنيا الفاني، ولذا عظَّم الله شأن الرحم؛ كما ثبت عند البخاري، ومسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ” الرحم معلقة بالعرش، تقول: مَن وَصَلَني وَصَلَه الله، ومَن قَطَعَني قَطَعَه الله “.
لقد حذر اللهُ مِن قطيعة الرحم، وتَوَعَّد على ذلك بأشد الوعيد، ورتب على ذلك خسران الدنيا والآخرة؛ ثبت عند البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ” إن الله تعالى خلَق الخلْق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصِل مَن وَصَلَكِ، وأقطع مَن قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك “، ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ” اقرؤوا إن شئتم: “فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ * أُولئكَ الَّذينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أبْصَارَهُمْ” [محمد: 22، 23]))؛ متفق عليه.
لقد شاهدْنا في دنيا الواقع مَن تكون الدنيا ومتاعُها الفاني سببَ فراقِه مع أبويه أو أحدِهما، وشاهدْنا مَن ثارت بينهم العداوات وهم إخوة وأشقاء، وشاهدنا كيف يحقد الأخ على أخيه، وكيف يقتل القريب قريبه، أو يظلمه من أجل متاع زائل ودنيا حقيرة.
ألا يَذْكر هؤلاء جميعا أن ما بينهم من الصلة والمودَّة والقُربى فوق هذا المتاع الزائل، وليعلموا أن مِن أفضل صلة الرحم أن تَصِل مَن قطعك، وتُعْطي من حرمك، وتحلم على من جهل عليك، وتحسن إلى من أساء إليك.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يا رسول الله: إن لي قرابة أَصِلُهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُم عليهم ويجهلون عليَّ، فقال: “لئن كنتَ كما قلتَ، فكأنما تُسِفُّهُم الْمَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك”.
أما من يَهجُر أهله وأقاربه، ويقاطعهم بسبب كلمة سمعها أو وشاية نقلت إليه، فهذا المسكين جنى على نفسه وعلى غيره، وظلم الآخرين، ومنع وصول الحق إليهم، وليتذكَّر قولَ النبي صلَّى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجَنَّةَ قاطع” قال سفيان في روايته: يعني: “قاطع رحم”؛ متفق عليه.
إن صلة الرحم تقوي المودة، وتزيد المحبة، وتوثق عرى القرابة، وتزيل العداوة والشحناء، وهي ذات مجالات شتى، فمن بشاشة عند اللقاء، ولين في المعاملة إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه، إنها زيارات وصلات، وتفقُّد واستفسارات، مكالمات ومراسلات، إحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا، ينضم إلى ذلك غضٌ عن الهفوات، وعفو عن الزلات، وإقالة للعثرات، وعدل وإنصاف.
أ. د. عبدالله بن محمد