
أسقط بيان الحكومة الجزائرية آخر ورقة “توت” يختبئ خلفها الانقلابيون في مالي منذ 2020، مستأثرين في ذلك بمنافع بلد يتحالف ضده المناخ والتضاريس، فيما يغرق سكانه في فقر مدقع وهم يكابدون يوميا تهديدات المجاعة وويلات التهجير القسري هربا من الجحيم الذي أوجده من وصفهم بيان الخارجية الجزائرية بـ “الطغمة”.
عبد الرحمان شايبي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتقاطع جميع الإشارات السياسية والدبلوماسية الواردة حتى الآن حول ضرورة وضع حد نهائي لما يمكن وصفه تكالب إقليمي يقوده مجموعة انقلابيين يفتقدون إلى الشرعية الدولية وحتى إلى التأييد الداخلي على الجزائر، ودورها المحوري في القارة الأكثر عرضة للانقلابات والأكثر احتكاما لتغيير المواقف على طريقة تغيير المعاطف والملابس.
وتجد الجزائر نفسها “مضطرة” تحت الإكراه لإنزال بعض “العقاب” ولو على مضض من منطلق احترام مبادئها وقيّمها ومُثُلها القائمة بالأساس على تبجيل جانب الإنسانية قبل أي تعامل آخر، بدءا من دول وشعوب الجوار وصولا إلى عمق القارات.
وتكشف عبارات بيان الخارجية الجزائرية الذي أعقب بيان وزارة الدفاع الوطني في قرار غلق المجال الجوي أمام مالي أن صبر الجزائر له حدود، كما له عواقب أيضا، واحدة منها تجلت في إضافة مالي ابتداء من يوم أول أمس إلى جار السوء الآخر “المخزن” في سلسلة العقوبات التي فرضتها “القوة الضاربة” الأولى في المنطقة من خلال لفت انتباه “المغضوب عليهم” إلى وجود محور دوران “جوي” سيزيد حتما من متاعب الانقلابيين ويعمق أكثر من عزلتهم التي يعانون منها بشكل واضح منذ بداية تلكؤ جماعة الانقلابي “أسيمي غويتا” بهدف تمديد عمر المرحلة الانتقالية التي بدأ سقفها في الأول في حدود ستة أشهر، ثم سنة، فسنتين، وتشارف اليوم على إتمام عامها الخامس دون أن يلوح في أفق العاصمة باماكو أي ضوء أو انفراجة لأزمة سياسية تم جرها كليا إلى حلول الخيارات الأمنية، كل ما نتج عنها هو المزيد من التعقيدات، والمزيد من إضعاف المؤسسات وليّ ذراع الدولة لصالح “طغمة” عسكرية تستمد سلطتها من إسناد منظمات وجماعات مسلحة تجهل ثقافة الدولة، ولا تحتكم إلى مؤسسات الشرعية، ما يجعل من دولة مالي أنموذجا حيا للمأساة الأمنية في القارة.
كما يكشف “الازدراء” الذي حمله بيان الحكومة الجزائرية من العبارات التي تضمنها بيان انقلابيي دول الساحل درجة التقزز، وامتعاض الجزائر من عبارات السفالة والخساسة الذي انحدر إليها مستوى محرري بيان “الثلاثي” وما تناوله من تهجم مدفوع الأجر على بلد يرتقي به التاريخ قبل أصول الجوار عاليا عن امتهان نظريات الفتن وإيديولوجيات التمزيق التي يمارسها الإرهاب الأعمى، وكان لها ظهر الجزائر بمثابة صخرة تفتت عليها جميع المؤامرات والمناورات التي أرادت السوء بالجزائر وبدول جوارها الإقليمي ومن ضمنهم الجارة مالي.
وتَدين مالي نفسها إلى “اتفاق الجزائر” الذي تم توقيعه سنة 2015 حقنا لدماء أطياف الشعب المالي، ونأيا بمؤسسات دولته عن مسارات الاقتتال، وأيضا من أجل التفرغ لبناء أسس الدولة الديمقراطية وتحقيق تطلعات شعب شقيق مسالم كان ولا يزال يضع جارته في الشمال في منزلة “الأخ الكبير” قبل اعتلاء الانقلابيين ساحة المشهد وتعميق غرق أقدام الدولة في مستنقع الفساد والرشاوى والإجرام.
وسبق لوزير الدولة وزير الخارجية والجالية الوطنية في الخارج والشؤون الإفريقية السيد احمد عطاف أن تناول هذا التكالب “المنحط” و”الدنيء” مثلما وصفه حامل الحقيبة الدبلوماسية الوطنية دون ذكر أصحابه بالاسم من منبر الأمم المتحدة في اختتام أشغال جمعيتها العامة نهاية السنة الماضية.
ولئن كانت قيّم الجيرة وتقاليد الاحترام هي من تمنع الجزائر وتحول حتى الآن من الرد القاسي على مجموعة خارجين عن الشرعية الدولية، فإن واجب فرض الاحترام يستوجب أيضا على الجزائر صون سمعتها، ولو كلّف ذلك “تأديب” اليد التي حاولت تشويه سمعة وصورة بلد الثوار والقيّم المثلى، وهو ما ترجمه بيان الخارجية أول أمس حينما أعقبته إجراءات ردعية فورية و”ملموسة” من وزارة الدفاع الوطني، عبر قرار غلق المجال الجوي في وجه الملاحة المتوجهة أو القادمة من مالي، وهو ما سيكتشف معسكر الانقلابيين ثِقله سريعا جدا، وحملهم على إدراك أن التهور أمام قوة تمثل عامل استقرار إقليمي ودولي، هو بمثابة لعب “سُذّج” من المسافة الصفر من عش دبابير إفريقي مرعب ومميت.