ثقافة

سرّي للغاية للكاتب الأديب “جمال باشا”

قراءة في مسرحيّة

بقلم: عبد الله لالي

الحلقة الثالثة (الأخيرة):

الحوار في المسرح هو السمت الغالب على هذا النوع الأدبي، ويمكن توظيف الحوار بكل أنواعه، حتى على الخشبة أثناء تجسيد المسرحيّة عليها، والكاتب عندما يؤلّف مسرحيّته يضع كلّ ذلك في حسابه، ولذلك نجده يطعِّم الحوار بكلمات توضيحية وأحيانا جمل تشير إلى حالة المتحاور النفسية والتحولات التي تطرأ على وجهه وملامحه حين الحديث، مثل قوله في ص:23 “فكتوريا: (بثقة كبيرة في النّفس) اهتم الآن بزوجتك الغالية، ودع أمر ” ألكسندر” لي.”

وقوله من ص 24″ ميشال: (ينحني ويرفع القبعة باحترام) أهلا بك سيّدة الكلّ ..”

ويقول في ص 53:” ڤولدا: تبتسم؛ وتعتدل في مكانها؛ ثم ترسل قبلتین على الهواء من على كفها إلى”فكتوریا”؛ ثم تقول بصوت فیه الكثیر من الدلال والإحساس بالأمان) كم أنت ذكیة یا خالتي العزیزة؛ كم نحن محظوظون بك. كنت أعرف أنك الوحیدة التي تمتلك الحل الحكیم والربط المتین”

وحتى في الحوار غير المباشر الذي يكون عن طريق الهاتف مثلا نجد تلك الجمل المساعدة التي تضع القارئ في بؤرة الحدث، يقول الكاتب في ص 26:” يتسلم “ميشال” الهاتف بيد مرتعشة، وبصوت مضطرب جمع بين الخوف والاحترام”:

ـ ميشال: أنعمت مساء سيدي “سام”؛ اشتقنا إليك كثيرا..”

كوكتال ثقافي خلاب:

وإذا استعرنا من المنهج النقدي الثقافي معاييره وأدواته؛ فإننا نجد في المسرحيّة جملة من القيم الثقافية والمعلومات المعرفية التي طرزت جوانبها وجملتها، ومنها بعض الأمثلة والحكم، وهي أقلّ مما جاء في كتبه السابقة لاسيما روايته المنعطف السابع، إلا أنها ما زالت ببصمتها المميزة، من مثل قوله على لسان شخصيّة (سام) ص32:”يعني نسيّر الأمور وفق نظريّة شعرة معاوية”

وهي المقولة المشهورة عن معاوية رضي الله عنه:” لو كان بيني وبين النّاس شعرة ما انقطعت، إن شدّوا أرخيت وإن أرخو شددت” وهي حكمة رائعة في سياسة الأمم والشعوب، لكن (سام) الذي هو في الأصل عرّاب المعسكر الغربي (أمريكا)، يوظّف هذه المقولة لصالح مصالح الغرب الدنيئة والجشعة التي تستولي على ثروات الشعوب وتمتصّ خيراتها بكلّ الطرق والوسائل، ثم تزعم أنّها تعطف عليها وتساعدها وتحاول الأخذ بيدها نحو سبيل النهوض والرّقي ( !!).

كما ساق الكاتب مقولة أخرى على لسان فيكتوريا هذه المرّة وهي قولهم:” لا تعاقب النّاس بالعصا نفسها” ص 36

وساق كلام سام مرّة أخرى يستدلّ فيه بقولهم:”إذا كانت العصا في یدي فالحق في فمي” 55

وقول فيكتوريا: “یجب أن نرى أحیانا الأرانب أسودا!!” ص56 وقوله كذلك:”مجرد دودة في سنارة صیاد محترف 56 ومنها أيضا قولهم:”على قدر الحب يكون العتاب” ص 44 وغيرها من المقولات التي جرت مجرى المثل والحكمة، تزين النّص الإبداعي وتمتن من أسلوبه وتزيده قوّة، كما لم يفت الكاتب أيضا التناص مع القرآن أحيانا في مثل قوله:” ليردوا لها جميلها بالتي هي أحسن” ص 54 وهي تناص من القرآن الكريم في قوله تعالى:”ادفع بالتي هي أحسن” وقوله: “ولا تجادولوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن”

وكلّ هذه النّصوص الثقافية سواء من التراث العربي الإسلامي أو التراث العالمي؛ تشير إلى ثقافة الكاتب الواسعة، كما تنم عن تدفق إبداعي كبير، يضمن معه القارئ وجبة ثقافية دسمة، ورحلة سياحية ممتعة في نصّ إبداعي يجمع بين الفائدة المجتناة والمتعة الفنية التي يضوع عطرها فوّاحا.

كما عمد الكاتب إلى تزيين مداخل فصول المسرحيّة ببعض الصور الحيّة، من واقع الأحداث العالمية لاسيما معركة (طوفان الأقصى) ويمثل جزءا كبيرا من أحداث المسرحيّة، فنجد مثلا في صفحة 20 في بداية الفصل الأوّل؛ صورة تمثل الرئيس الأمريكي جو بايدن يصافح رئيس الوزراء الصهيوني المجرم نتن ياهو ويعلّق الكاتب على هذه الصورة بشكل مباشر قائلا:”واشنطن تعطي الضوء الأخضر للمحتل الصهیوني لإبادة شعب فلسطین”

والصورة مع التعليق تحتها لا تحتاج إلى مزيد بيان، وهي رسالة إدانة واضحة تؤكد مشاركة الولايات المتحدة في محرقة العصر الحديث بالأدلة والبراهين، لا بالإدعاء والتهويل كما فعل الصهاينة في الحرب العالمية الثانية.

وفي بداية الفصل الثالث صورة أخرى ص 48 تمثل أحد المواطنين الغزاويين يدفع عربة يد عليها بعض متاعه مما تبقى من بيته المهدم، وهو يحاول النزوح إلى أي مكان قد يجد فيه الأمان، وفي الخلفية صور لبيوت مهدّمة بفعل القصف الإسرائلي، وكتب المؤلف تحت الصورة:” آلة الموت الصهیونیة مارست أعمال إبادة جماعیة في غزة” وكأنّ الصورة الثانية جوابا يصادق على رسالة الصورة الأولى الصريحة.

وتقنية الاستعانة بالصور الواقعية أو الصور الفتوغرافية وأحيانا الصور التشكيلية؛ لها خلفية في مسار الكاتب الإبداعي إذ كان مراسلا صحفيا مبدعا في التسعينيات يتعامل مع الصحافة الوطنية بالنّص والصورة (الساخرة/ المؤلمة).

وفي بداية الفصل الثالث أيضا صورة أخرى بعين الواقع تمثل مندوب الجزائر لدى منظمة الأمم المتحدة يلقي كلمة دفاعا عن فلسطين، وكتب المؤلف جمال باشا تحتها معلّقا:

جزء من كلمة مندوب الجزائر لدى منظمة الأمم المتحدة بعد إجهاض الولایات م أ لمشروع القرار الجزائري في مجلس الأمن الدولي یطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة “..ستعود الجزائر لتدق أبواب مجلس الأمن وتطالب بوقف حمام الدم في فلسطین ولن نتوقف، فلنا نفوس لا تمل وعزیمة لا تكل.”

تبقى صورة واحدة تتكرر في كلّ فصول ومشاهد الرواية، وتمثل رجلا في وضعية الاستعداد لإطلاق سهم من قوس مشدودة بقوّة، وكأنه مناضل الحريّة أو (الحقيقة) الأبدي يصوب نحو الهدف المنشود دون هوادة، والمسرحيّة كلّها تترجم عن ذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يرجى تعطيل مانع الإعلانات.