
حوار روحاني بين الأندلس، الأمير عبد الرحمن الداخل، الجزائر، وطيف أندلسي من المستقبل
الأندلس: الحلم المتجسد
(المشهد: ليلة هادئة على ضفاف الوادي الكبير. القمر يُرسل ضوءه على سطح الماء، كأنّه ينصت لحوار الأرواح. الأمير عبد الرحمن الداخل يقف متأملًا، تحيط به رياح الزمن، وأمواج الذكرى. من بين ظلال الليل ينبثق صوت، ناعمٌ كهمس التاريخ، لكنه عميقٌ كحزن الحضارات… إنه طيف الأندلس.)
الأندلس (بصوت يشبه نغمة بعيدة تهب مع الريح): يا طريد الزمان، يا مؤسس المجد في أرض الضياع، أما زلت تذكرني؟
عبد الرحمن الداخل (بصوت يغلبه الشوق): كيف أنساكِ، وأنتِ روحي التي هربتُ إليها؟ كيف أنساكِ، وأنتِ الفردوس الذي صنعته من الرماد؟
الأندلس: رأيتُ فيك ظلّ آبائي، سمعتُ وقع خطاكَ فارتجفت جدراني. أخبرني، كيف أعدتَ لي الحياة بعد أن كدتُ أفقدها؟
عبد الرحمن الداخل: لم يكن لي وطنٌ سواكِ، ولم يكن لي ملجأ إلا ظلالكِ. هربتُ من سيوف الخيانة، عبرتُ الصحارى، عبرتُ البحر، فلم يكن أمامي إلا أن أُحيلكِ إلى جنة، كي لا تضيع روحي مرتين.
الجزائر: الحارسة الصامتة
(يخترق السكون صوتٌ آخر، قادم من الجنوب، يحمل معه رائحة الأرض وعبق التاريخ. إنه صوت الجزائر، الأرض التي كانت معبرًا وبوابة، الشاهدة على كل الذين جاؤوا ورحلوا.)
الجزائر (بصوت عميق، كصدى يخرج من رحم الجبال والصحراء): أسمعكما تتحاوران، وأشعر بنبض التاريخ يجري بين كلماتكما. أنا التي حملتُ أولى خطوات الفاتحين، أنا التي عبرها المجد ليولد في الضفة الأخرى. لكنني رأيتُ أيضًا مراكب الخيبة، وسمعتُ بكاء الراحلين.
الأندلس (بحزن خافت): يا أختي في العروبة، هل ستبقين شاهدةً على مجدي حتى النهاية؟ أم أنكِ ستشهدين لحظة سقوط النور؟
الجزائر: أنا الأرض التي تعرف كيف تنهض الأمم، وكيف تسقط. رأيتُ النصر يتجلى، ورأيتُ العروش تتهدم. لكنني أعلم أن المجد ليس قصرًا يُبنى، بل فكرةٌ تُحفظ في القلوب. إن كنتم قد أقمتم صروحكم بالحجر، فأقيموها أيضًا بالكلمة، لأن الحجر قد يسقط، لكن الكلمة لا تموت.
عبدالرحمن الداخل (بإصرار وصدق): لن أدع هذا المجد يضيع، لن تكون الأندلس مجرد ظلٍ في الذاكرة. سأزرع فيها من النور ما يجعلها أقوى من أن تُطفأ.
الطيف الأندلسي من المستقبل: صدى السقوط والبقاء
(تبدأ الريح في الدوران حولهم، ويظهر طيف آخر، لكنه قادم من زمن لم يعرفوه بعد. إنه صوت الأندلس بعد قرون، صدى حضارة كانت، وبقايا حلم لا يزال عالقًا بين السماء والأرض.)
الطيف الأندلسي (بصوت هادئ لكنه مثقل بحزن القرون): أسمعكم تتحدثون عن المجد، عن البناء، عن العهد… لكن هل كان كل هذا كافيًا ليحفظني؟
عبدالرحمن الداخل (بدهشة وتأثر): من أنتَ؟ ما هذا الحزن الذي يملأ كلماتك؟
الأندلس (بهمس يملؤه الخوف): أخشى أن يكون هذا صوتي بعد أن سقطتُ… هل أصبحتُ مجرد طيفٍ هائم في ذاكرة الزمن؟
الطيف الأندلسي: نعم، أنا صوت المستقبل، أنا صدى الحضارة بعد أن غُيِّبَت شمسها، أنا الكتب المحترقة، والقصور التي أصبحت أنقاضًا، أنا الألحان التي لم تعد تسمعها إلا الريح.
الجزائر (بحزن، لكن بثقة): لا تحزني يا أختاه، فالأرض لا تموت، والذكرى لا تُمحى. قد يسقط المجد، لكنه لا يفنى… بل يتخذ أشكالًا أخرى، يسكن في الشعر، في الألحان، في الحكايات التي يرويها الأجداد لأحفادهم.
عبدالرحمن الداخل (بألم، لكن بعزم لا ينكسر): لا يمكن أن يكون كل شيء قد ضاع… ألم نزرع فيكِ من الحضارة ما يجعلكِ خالدة؟
الطيف الأندلسي (بهدوء يشبه الحكمة): نعم، زرعتم النور، لكن الذين جاؤوا بعدكم لم يعرفوا كيف يحفظونه. تنازعوا، تفرقوا، فتهاوت الأسوار، وغابت الشموس. لكن لا تخف… ما زال هناك من يحلم بي، من يعبر البحر بحثًا عني، من يهمس باسمي في الليالي المقمرة، من يكتب عني حتى لا أموت.
العهد الأخير: المجد لا يموت
(يصمت الجميع للحظة، كأنّ الزمن نفسه قد توقف ليستمع إلى هذا الوعد).
الأندلس (بصوت يفيض رجاءً وأملًا): إذن، لم أمت؟ لا زلتُ حية؟
الجزائر (بثقة وحنان): ما يسقط بالسيف قد يُعاد بالقلم، وما يُمحى بالنار قد يُولد في القلوب. أنتِ لم تموتي، بل تحولتِ إلى فكرة، والفكرة لا تموت.
الطيف الأندلسي: إذن فاحفظوا هذا العهد… لا تجعلوا الذكرى تنطفئ، لا تتركوها مجرد قصة تُروى، بل اجعلوها درسًا، أن الأرض لا تحمي نفسها، بل يحميها أهلها.
عبدالرحمن الداخل (بصوت قوي، كأنما يوجه كلماته إلى الأجيال القادمة): إذن، فليكن هذا عهدًا بيننا… أن نحفظ الأرض بالكلمة كما حفظناها بالسيف، وأن نزرع فيها ما لا تقتلعُه الريح.
(تبدأ الأصوات بالتلاشي، لكن صدى العهد يبقى معلقًا في الهواء. يختفي الطيف الأندلسي، لكن أثره لا يزول. يبقى عبدالرحمن الداخل واقفًا على ضفاف الوادي الكبير، وفي قلبه وعدٌ لا يُخلفه: أن تظل الأندلس خالدة، وإن رحلت.).
سلينا السيد/ مسقط، عمان