مواسم البوح

تساؤلات على نغمات الذكريات

قصة قصيرة

يرتدي بيجامه ذو التقليمات العريضة جالساً على كرسى متحرك في شرفته والساعة تشير إلي السادسة مساءً، الشمس حدث لها عملية اختزال كيميائي وتحولت إلي اللون البرتقالي في إعلان صريح لأخذ قسط من الراحة.

حتى يوم تالي شاق.

كل ده كان ليه لما شفت عينيه

حن قلبي إليه و انشغلت عليه

كل ده كان ليه

كان ينشد عبد الوهاب مقطوعته الخالدة عبر الأجيال التي من المؤكد أن ذاك الكهل تسلطن لها لأول مرة في ريعان العشرينات، كان يدندن بصوت واضح مع تأثر من كلمات عبد الوهاب، ترغرغت الدموع وتعالت آلامه كلما أنشد عبد الوهاب قائلاً كل ده كان لية؟ ظل السؤال يراودني في كل مرة هل تحصل على إجابته أم ظل مثلي هائم باحثاً عن الأسباب؟

قاوم العجوز الدموع وأحمر وجهه الأبيض وكأن سيلا من الذكريات تتهافت مرة واحدة عليه في استعداد للحظة تجلٍ عظيمة تحدث الآن، مرت الثواني وعقارب الساعة لم تتحرك خطوة واحدة، عبد الوهاب من الجرامفون يستعد أن يطلق إحدى القذائف من حنجرته إعلانا للموت البطيء

فاتنى وف قلبي شوق بيلعب بي

وف خيالي طيف غاب عني

بقى له يومين معرفش وحشني ليه

 

رأيت العجوز يقترب مني ويهمس في أذني قائلاً: حقاً أعلم لماذا اشتقت إليها! كان الرد مثل الصاعقة من ذاك الذي قاربت قدماه إلى الذهاب للقبر مجبراً، الحقيقة أني اعتقدت أن ذاك السؤال لم يكن له إجابة مطلقاً، أحقا نعلم لماذا نشتاق لمثل هؤلاء الأشخاص حتى بعد ذاك العمر المديد، هل فيض الذكريات الذي هب مرة واحدة ساعده؟ أم أنه ظل خمسين عاماً باحثاً عن الإجابة  وجدها؟

نام و سهرني والا فاكرني

والا مش عالبال صبحني

ف هم وويل من طول ما بفكر فيه

نساني أنام الليل خلاني ابات أناجيه

كان عبد الوهاب في تلك اللحظة يحاول جاهداً من أن يختلق أسبابا حقيقية لكل ما حدث معه ولكن في نفس الوقت جلس العجوز يختلق أعذارا، حاول بشتى الطرق أن يعبر عن مأساته في عدم وجودها في تلك الظروف العصيبة معه، أراد أن يعبر عن الآلام الليلية التي صاحبته وعن الآثار والشروخ النفسية التي تعرض لها إيذاء كل ذاك، صمت العجوز لوهلة وتهافت عليه فيض من المشاعر التي جعلته يحن مرة أخرى، برغم الهالات السوداء واضطرابات النوم واليد المرتعشة في سن العشرين، واهتزاز قدميه المستمرين ولكن ظل يناجيها ليلاً ونهاراً قائلاً: كل ده كان ليه ؟

يا شاغلني ليل ونهار بغرام

ما اقدرش اداريه  شوف قلبي

وشوف النار اللى انت قايدها فيه

لم يستطع عبد الوهاب وصديقي السيطرة على مشاعرهما، فقد تحشرج صوتهما معا وانفطر قلبي معهما في آن واحد، وجدت نفسي أقف أمامه وسيل من الدموع انفرط على خدي، لم أر عجوزاً يوماً ما في هذه الحالة من قبل، همس وهو يجفف عينيه: مازلت أحبها ياصديقي، أجلس هنا لمدة خمسين عاماً وكل يوم في ذات الوقت على أمل أن أراها مرة أخرى كعادتنا، أرسلت آلاف الرسائل والوسطاء بيننا ولم أحصل على رد حتى الآن، ذاك جعلني أسأل نفسي سؤالاً واحداً: كل ده كان لية؟

بيتر طابي راغب مفيد /الإسكندرية ـ مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يرجى تعطيل مانع الإعلانات.