الكاتبة والفنانة التشكيلية “راضية قوقة رودسلي”: “الشيخ ولبحر” دليل على قابلية الترجمة واحتضان أعظم الأعمال العالمية بالدارجة الجزائرية بأسلوب راق ومرن”
خلال فعاليات الطبعة 27 لمعرض سيلا الدولي:
جمعت بين عدة مهارات فنية وأدبية، فباتت واحدة من الباقات المزهرة بعطر الإبداع المتعدد الذي توجته بدخول عالم الترجمة عبر واحدة من روائع الأدب العالمي التي نقعتها بروح الشغف وحاكتها بالدارجة الجزائرية في أسلوب بهي وبكلام مسجوع يذكرنا بحكايا الجدات في جلسات الزمن الجميل التي يحن لها الجميع لما توقظه في دواخلهم من حميمية وما توثقه من حكم وتنشره من أريحية وجمالية لغوية، وهو ما سعت إليه الكاتبة والشاعرة والفنانة التشكيلية “راضية قوقة رودسلي” بترجمتها لرواية همنغواي الخالدة “الشيخ ولبحر” الصادرة عن داري “إبداع بوك للنشر والترجمة” و”نسمة للنشر والطباعة”، واضعة بصمتها الفنية والأدبية عليها بما حول ابنة قسنطينة إلى واحدة من أيقونات هذا المجال الأدبي وهي على تباشير الأربعينات، فاستشعرت في ذلك مغامرة البطل وعملت على معايشة القارئ لذات المواقف والإحساس بها، وبدافع الرغبة في إبراز جماليات الدارجة الجزائرية صاغتها خريجة الإعلام الآلي ضمن قالب شعري ذو رنة موسيقية تطرب الأذن وتنعش النفس، معتبرة إياها “اللغة الثالثة” التي تخدم العربية الفصحى بشكل غير مباشر؛ بملامستها للقلوب وتعزيزها لروح الأصالة والتعلق بكل ما يرمز إلى الهوية الوطنية.
حوار/ رحمة مدور ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم وقع اختيارك على هذه الرواية بالذات لترجمتها؟
لأنني أحببت كثيرا هذه القصة العظيمة التي نالت جائزة نوبل للأدب سنة 1954، كما أنها واحدة من روائع همنغواي الخالدة ومن أشهر الروايات العالمية، واخترتها لأن فيها عبقرية في طريقة سردها، بلغة تمتاز بالبساطة والكثافة والقوة، وتخفي في باطنها الكثير من الدروس والمواعظ والبعد الفلسفي، الذي يعد أسلوبا يلامس القلب مباشرة ببساطته، وهو يشبه كثيرا أسلوبي في ما أكتبه، وترجمتها إلى الدارجة الجزائرية التي تلامس بدورها قلب القارئ كونها لغته الأم، التي يضحك بها، يبكي بها، يتألم بها، يعيش بها، فهي الأقرب إلى أحاسيسه، لتكون النتيجة رواية جد متميزة بأتم معنى الكلمة.
كونك فنانة تشكيلية وكاتبة وشاعرة، ما هي المحطة الأولى في هذه المسيرة الفنية؟ وأين تجد راضية نفسها أكثر وسط هذه الإغراءات الإبداعية؟
بدأت مسيرتي بالكتابة وبالتحديد بالشعر، وكنت حينها أكتب باللغة الفرنسية ثم العربية لأكتشف جماليات الملحون والزجل، بعدها كتبت أول رواية بالدارجة الجزائرية في الجزائر بعنوان “لفنيق” الصادرة عام2019 لدار “نسمة للنشر والطباعة”، وفي نفس الوقت أصدرت “مولات الخلخال” و”لالة زهيرة” وهي قصص في أسلوب زجلي سلس وجميل، يشبه الأساطير والخرافات الشعبية، وشيئا فشيئا وجدت نفسي أميل لفن الرسم، فقمت بصقل موهبتي ومن حينها لم أتوقف يوما عنها وقمت بعدة معارض فردية وجماعية، كما أنني لم أتوقف يوما عن الكتابة والشعر حيث قمت بتأليف ديواني زجل صدرا عن دار “نسمة” عامي 2022 و2023 على التوالي، وهما “كلام من شجرة السلام” و”ظل لبحر”، وإن طلب مني أن أختار بين الكتابة والشعر والرسم فلن أستطيع، كوني أجد نفسي في جلهم وأفرغ من روحي في كل إبداع، فالعلاقة بينهم مترابطة ومتكاملة تمثلني وتعبر عن عالمي.
ومن الفن إلى الترجمة كيف ذلك أم أنها تقاطعات مشتركة؟
هناك من يحتار فيما يخص مسيرتي الفنية، وكيف لي أن أكون فنانة تشكيلية وفي نفس الوقت كاتبة وشاعرة ومترجمة وحكواتية ومعالجة بالفن! أقول لهم ولم لا، وإن وفقني الخالق المبدع ووهبني هذه المواهب فهل علي حتما أن أختار؟ فكل هذا أنا، لست أبحث عن نفسي فأجرب، بل وجدت نفسي في جل مواهبي وإبداعاتي، إنهم أصابع يدي فكيف لي أن أختار بينها، إنني بحاجة لأكتب وأرسم وأبدع…، وهناك الكثير من المبدعين الذين جمعوا بين الكثير من المواهب في نفس الوقت مثل جبران خليل جبران الذي كان شاعرا وكاتبا وفيلسوفا وعالم روحانيات وفنانا تشكيليا ونحاتا.
لطالما كانت اللغة العربية خطا أحمر بالنسبة للكثيرين، وهناك من يعتبر هذا النمط الكتاباتي تمييعا لها خاصة مع رواية كاملة وليس مجرد نص عابر، ألم تتردي في تجربتك الجديدة هذه؟ وما ردك للمنتقدين لهذا النوع من الكتابة؟
الكتابة بالدارجة الجزائرية التي لها قواعدها وتعابيرها وأسلوبها يجعلها منفتحة على الترجمة واحتضان أعظم الأعمال العالمية، و”الشيخ ولبحر” أكبر دليل على ذلك، وعندما ترتقي من اللهجة المحكية للكتابة والإبداع في أي فن كان وخاصة في الرواية التي لابد أن نقدم لها حصتها بجانب الأعمال الإبداعية المسرحية والسينمائية، فإنها تصبح لغة وليس مجرد لهجة، وهي لغة الشعب الجزائري، التي يتحدث ويعبر بها كل يوم وفي كل مكان فهي الأقرب إلى حسه وقلبه، رضعها مع حليب الأم، فكيف له أن يتجاهلها في المجال الأدبي! فالكتابة بالدارجة الجزائرية لا تعني أبدا اتخاد موقف معاد من العربية الفصحى بل بالعكس فهي تخدمها بصورة غير مباشرة إذ تمنحها مرونتها التي تمكن من الحفاظ عليها إلى اليوم وبفضل انتشار الأعمال السينمائية والمسرحية منذ عدة سنوات، فلما لا في المجال الأدبي كذلك، كما أن القارئ في عصر العولمة إعتاد تلقي كل ما هو سهل وسريع، فهذا التجديد الأدبي المعاصر يعتبر أمرا إيجابيا بالنسبة للقارئ الجزائري وليس العكس، لأنه سوف يحثه على شراء الكتاب والمطالعة بدلا من إهدار وقت كبير في صفحات التواصل الاجتماعي والاطلاع على فيديوهات تحث على الرداءة والفتنة…، فعالم الكتاب والمطالعة أنقى وأجمل وإن كانت بلغته الأم فستكون أقرب إلى قلبه، فيتحسسها ويتعايش معها أكثر، وكأنه فعلا بطل القصة، كما أنه يستشعر مدى جماليات لغتنا الضاربة جذورها في عمق التاريخ والأصالة، فتعزز في نفسه روح الوطنية وتعلقه بكل ما يرمز إلى الهوية الوطنية التي تجعله يعتز بها بين الأمم والشعوب، وقد نالت تجربتي في هذا اللون الأدبي المعاصر الإعجاب والتشجيع أكثر من النقد، فهم يكتشفون مع ما أكتبه مدى جمال الدارجة الجزائرية وأبعادها اللغوية المميزة، خاصة وأنها بأسلوب السهل الممتنع الخافض المرتفع، بكلام أصيل راقي، مسجوع ومصاغ في قوالب شعرية ذات رنّة موسيقية تطرب الأذن وتنعش النفس ويستقي منها القارئ والمستمع عبر وقيم أخلاقية راقية.
هذا النوع من الكتابات يعتمد عليه أكثر كتاب السيناريو والأعمال المسرحية، فهل هم المستهدفون الأوائل بهذا العمل وسابقيه؟ أم هو موجه لشريحة أوسع؟
أجل إن كتاباتي يمكن لها أن تحول إلى أعمال مسرحية وسينمائية، وقد حدث هذا من قبل مع قصتي “لالة زهيرة” إذ حولت مباشرة إلى عمل مسرحي، ولكن ليسوا هم المستفيدين فقط من عملي هذا، فهو موجه للناس كافة وعلى نطاق أوسع إذ أنه يستهدف الكبار والصغار، المثقف ودونه، قراء الأدب الفرنسي والأدب العربي، الكل يمكن له أن يتعرف ويستمتع بكتبي التي أستخدم فيها الدارجة الجزائرية أي اللغة الثالثة القريبة من اللغة العربية والتي يفهمها الكل من كل ربوع الوطن.
لو تحيطينا أكثر بفكرتيك عن “الألواح الفنية الناطقة” و”زجل-جاز”؟
“جزل-جاز” هو تعبير يدمج بين ثلاثة أنواع من الفنون والمتمثلة في قراءاتي الشعرية في فن الزجل مصحوبة بموسيقى خافتة في فن الجاز أو فن الموسيقى الصوفية أحيانا، مع تأمل في لوحة من لوحاتي الفنية في كل مرة والكل من أجل الراحة النفسية والاسترخاء وتحفيز الطاقة الموجبة في النفس، وقد قمت بهذه الجلسات لتجديد الطاقة عدة مرات ونالت الكثير من الإعجاب في كل مرة، كما تعتبر هذه الطريقة وسيلة للتعريف بفن الزجل الذي ينتمي للرصيد الأدبي الشعبي على نطاق أوسع، ولم لا حتى في الساحة العالمية، أما عن “الألواح الفنية الناطقة” فقد قمت بعرض لوحات فنية لأيقونات الأغاني الجزائرية من كل ربوع الوطن، ففي قسنطينة عرضت الراحل عمار شنوفي وهو مغني فن المالوف في العشرينات، في منطقة القبائل عرضت الفنانة الراحلة جميلة، وأيقونة الشعبي الهاشمي قروابي بالعاصمة… وهكذا، والشيء الجديد فيه أنني وفي كل مرة أمرر يدي على اللوحة وحينها كالسحر تنطق الشخصية لتؤدي أغنيتها الشهيرة وهو ما حير الحاضرين ونال إعجابهم كثيرا، -وطبعا كانت لدي أدواتي التكنولوجية الخاصة من أجل إنجاح هذا العمل-، وهذا ما قمت بعرضه في مهرجان منعة فن لهذا العام في طبعته الثانية.
ماذا عن غلاف الرواية التي تعود لرسمك؟ وهل حتى كتبك السابقة أغلفتها من وحي قلمك؟
غلاف الرواية هي لوحة فنية من تصميمي، ألوان اكريلك على القماشx70 cm 80 بعنوان “عمق العزيمة”، وحتى أغلفة ديواني الزجل كذلك من تصميمي، أما أغلفة سلسلة تمجيد التراث القسنطيني فهي لوحات من تصميم الفنانة التشكيلة إشراق نعيمة من ولاية الشلف.
هل هناك أعمال جديدة قريبة؟
أجل، لدي الكثير من الأعمال القادمة في كل من الترجمة والزجل والرواية، كما أنه لدي عدة معارض فردية وجماعية كذلك في مجال الفن التشكيلي.