
القصور في العلم وقلة الإدراك من أسباب العجلة والتسرع وسوء التقدير
قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} سورة الإسراء الآية 11
يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: ﴿خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءايَٰتِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾ وقال جل جلاله: ﴿وَيَدْعُ ٱلإِنْسَٰنُ بِٱلشَّرّ دُعَاءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَٰنُ عَجُولاً﴾.
في هذه الآيات الكريمات وصف الله الإنسانَ بأنه عجول، أي: بأن فيه عجلة في أموره، وتسرعا في أحواله؛ لقصور علمه وقلة إدراكه كانت تلك العجلة فيه، وهذا لَفْت نظرٍ له ليتحلى بالصبر والأناة، ويكبح جماح النفس المائلة إلى العجلة في الأحوال كلها، ولذا يقول النبي: “من حُرم الرفقَ حُرم الخيرَ كله”، ويقول عليه الصلاة والسلام: “ما وُضع الرفق في شيء إلا زانه، ولا نُزع الرفق من شيء إلا شانه”، فالرفق في الأمور كلِّها مصلحة للعبد في دينه ودنياه، فيدرك برفقه وحكمته وأناءته ما لا يدركه في طيشه وعجلته وتسرُّعه. فكم يفوت عليه بالعجلة أمور يندم على فواتها، وكم تعود العجلة عليه بأمور يندم على فعلها. ولذا شرع النبي للمسلم صلاةَ الاستخارة قبل أن يُقدم على أمر ما.. من الأمور، ليسأل الله: إِنْ يكنْ هذا الأمرُ خيراً له في دينه ودنياه وعاقبة أمره أن ييسره له ويعينه عليه، وإن يكن شرا له في دينه ودنياه وعاقبة أمره أن يصرفه الله عنه، وما ندم من استخار، ولا خاب من استشار.
قد تبدو هذهِ العجلة المذمومة في أعمالِ بعضِ الناسِ وتصرُّفاتِهم، فتوجدُ في إشاعة الأخبار، فتجد بعض الناس يشيع كل ما يصل أذناه من غير تثبت، أهو حق أم باطل؟ أصدقٌ أم كذب؟ مجرد خبر يسمعه لا يستطيع أن يكتمه، بل لا بد أن يشيعه وينشره، ولو كان هذا الخبر محض افتراء. وقد قال: “كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع”، فمن حدَّث بكل ما سمع قد يُتَّهم بالكذب ويوصف به وهو لم يقصد فعله، لكن عجلته في إشاعة الأخبار من غير تثبت، أوجبت له أن يوصَف بتلك الصفة الخاطئة، وهذا لا يليق بالمؤمن، قال جل وعلا للمؤمنين: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.
ومن العجلة المذمومة الحكم على الأشخاص، وإصدار الأحكام على فلان وفلان، بأن فلانا فاسق، أو بأنه كافر، أو أنه ذا رأي مخالف للشرع، ونحو ذلك مما قد يستعجل فيه البعض من غير خوف من الله وورع وتبين، ولو سألته عن حاله هو مع حدود الله والقيام بما أوجبه عليه، لوجدت عنده من النقص والتقصير ما الله به عليم، ومع ذلك ما سلم منه الناس؛ فليتقي الله من هذا شأنه ولينشغل بمحاسبة نفسه فمن قال لأخيه: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه، أي: رجع عليه كما جاء في حديثه عليه الصلاة والسلام.
وتذم العجلة في تسرع بعض الرجال في إطلاق لفظ الطلاق على امرأته، لمجرد جدال وخصام بسيط يحصل في كل بيت، أو لتقصيرها في بعض الأمور لظروف اكتنفتها مما تكتنف مثيلاتها من النساء، فيهدم بيته، ويفرِّق أسرته، دون ترو أو أنات أو الصبر عليها، لتجاهله لجِبلَّةِ المرأة المقررة شرعا، والمعروفة طبعا كما قال “فإن المرأة خلقت من ضِلَعٍ وإن أعوجَ ما في الضِلَعِ أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج”، و”لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي منها آخر”، وعليكم بالتؤدة والتأنِّي تُفلِحُوا، وإياكُم والعجلة فليستْ مِن هديِ النبي صلى الله عليه وسلم ولا هي من شأنِه، ولنتذكر أنَّ المؤمَّلَ غيب وليس لنا إلا الساعة التي نحن فيها، وإن غدا لناظره قريب.
إن الدين الإسلامي دين وسط لا يرضى بالإفراط ولا التفريط، وهو ينظرَ للعجلةِ نظرة عادلة، إذ كَرِهَهَا في مواضع وندبَ إليها في مواضعَ أُخرى، فكما أن التأني مندوب إليه في ظروف تليق به فإن ظروفا أُخرى تليق بالعجلة، وربما فاتَ قوما جل مطلبهم من التأني وكان الأمر في محصلتهم لو عجلوا، وليس معنى تنفير الإسلام من العجلة أنه يرِيد أن يعلم أتباعه البطء في الحركة أو الضعف في الإنتاج أو التراخي في العمل والكسل في أداء الواجبات، كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بادروا بالأعمال)، كما دعا عليه الصلاة والسلام لأمتهِ فقال: (اللهمَّ باركْ لأُمَّتي في بكورِهَا).
ومن هذا المنطلق كان ثمة أمور ومواقف تتطلب من العاقل التصرف الحازم والعمل السريع ما لا يناسبه التأجيل والتسويف، مثل العجلة في اغتنام الأوقات وترك التسويف فيها، وكذا التعجيل بالتوبةِ لِمَنْ وقعَ في المعصية، فاللهُ تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتبعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا)، وقدْ حثَّ النبيُّ على كتابةِ الوصيةِ حتَّى تُؤدَّى الأماناتُ إلى أهلِها، وتُعادَ الحقوقُ إلى أربابِها، يقولُ صلى الله عليه وسلم: (ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُريدُ أنْ يُوصِيَ بهِ يبيتُ ليلتَينِ إلاَّ ووصيتُهُ مكتوبةٌ عِندَهُ) وكذلكَ التعجيلُ في قضاءِ الدَّينِ مطلوب خوفا من مباغتة الأجل، وشكرا للدائن الذي ساعد وأعان في وقت الضيق.
عبدالله الجار الله