العمود

التفكير بصوت عال: الحراك بصيغة التأنيث

يبشر الحراك بميلاد امرأة جزائرية جديدة… امرأة تمسك بمكتوب بلادها ومصير الحياة بيديها وتتجاوز ثقافة الخدور لفائدة الثقافة البانية والثقافة النقدية… ثقافة القدرة على الاقتراح والبرمجة الحياتية… لقد شاع الكلام حول كون المرأة متواجدة دوما خارج إطار المجتمع، وكونها تابعا سلبيا  للرجل، كما شاع تماما الخطاب الذي يهدف إلى وضع جدار حديدي بين المجتمع والنخب الصانعة للوعي والمؤطرة للحساسيات الجديدة في المجتمع.

والواقع الذي نصر عليه منذ بدايات الحراك هو أن الوعي يصنع بشكل تراكمي، ويتكون على مراحل وطبقات كثيرة غالبا ما تكون غير محسوسة بجلاء… ينتهي الحراك إلى  أن يكون صنيعة عمل النخب لمراحل طويلة، ولكنه عمل يشبه تعتيق الخمور والزيوت، فهو يحدث بصمت وفي الظلام، بشكل أكيد ولكنه غير محسوس، وإذا كان هيغل قد وصف الحقيقة بأنها حديث الروح إلى نفسها في صمت، فالحراك أيضا اختمر مطولا بشكل يشبه الحقيقة لأن الحراك حقيقة في حد ذاته.

لقد ظهرت المرأة في شوارع مدن غير منتظرة تماما. ولم تظهر كما عودتنا المؤسسات القديمة التي تدرج المرأة دوما على أنها رقم ياتي بعد الفاصلة لكي تصبح مجرد تفصيل صغير في أي حساب كان، بل ظهرت في مربعات منظمة تسمى مربعات النساء، وقد تدرجت امرأة الحراك في الخروج من تلك المربعات التي تعبر عن ثقافة الفصل بين الجنسين التقليدية والتي لها ما لها على المستوى المجتمعي ولكن عليها ما عليها على مستوى هندسة وعي الأجيال القادمة… وشيئا فشيئا صارت المدن الداخلية للجزائر ترى نساء يخرجن من مربعات “الحريم” المجتمعي” إلى الشارع بكل أبعاده الديمقراطية، وعلا صوتها الذي علمته الثقافة البالية بأنه عيب/عار/عورة لكي يصبح هذا الصوت في الشارع سلاحا سياسيا خطيرا يدافع عن الحق في فرض الصوت. الصوت لدى امرأة الحراك لم يعد عورة أو عيبا أوعلامة فيزيائية تخدش الحياء بل صار مسؤولية تاريخية ذات بعد ديني أيضا – وعلينا أن نستحضر البعد الديني الفاعل على هذه الأرض منذ آلاف السنين-… الصوت النسوي في جزائر الحراك لم يعد ورقة انتخابية تتلاعب به السلطة النشطة جدا في مسارات المحافظة على الوضع القائم ومحاولة الدفاع عن استمراريته ولو من وراء أقنعة تتسم بسمة التغيير…

صوت المرأة الجزائرية اختمر مطولا في النصوص الأدبية ولعشرات السنين منذ الخرجات المبكرة لكاتبات جيل ثورة التحرير والتي يبدو أنهن كن دائما يمهدن لمعالجة قضايا اليوم، كاتبات مثل الطاوس عمروش وصفية كتو وزهور ونيسي وآسيا جبار، وانتهاء بكاتبات جيل الاستقلال وما بعده حتى الآن كحال أحلام مستغانمي وياسمينة صالح وفضية الفاروق وربيعة جلطي وجميلة زنير وزينب التبسي الميلي وزينب الأعوج ونينا بوراوي وزليخة السعودي وغيرهن كثيرات …وربما يكون العكوف المبالغ فيه على موضوعات حب التحرير في زمن أول ثم موضوعات العشرية السوداء ثانيا، حيلة ذكية للحديث عن إمكانيات القطيعة مع ماض يحمل الغل للاستعمار وللعنف السياسي دون أن يربط ذلك باستعمار الذهنيات أو العنف الرمزي المسلط على المرأة بعيدا عن الأسلحة والعنف المسلح، وهو الأمر الذي ظلت تعانيه امراة ما قبل الحراك في الجزائر، وربما في البلاد العربية قاطبة… لكي تكون هذه الموضوعات مشاجب رمزية لزعزعة أوضاع قائمة تستمر بطاقة التقاليد التي لا توجد قوة تعادلها إلا الموت.  وهذا ما يفسر أن أغلب النصوص الجديدة التي تصدر على أيامنا تفضل النقد السياسي لأوضاع العشرية السوداء زمن المحنة، وما بعدها مباشرة.

لقد تنبهت امرأة الحراك الجزائري إلى عدم السقوط في فخ العكوف على مطالب الحركات النسوية، فهذا النوع من النضال في العالم قد تم تطويقه ببساطة عن طريق شيطنة النساء بناء على سهولة رمي بعض النسويات المتطرفات بسهام النقد الأخلاقي الذي هو جزء من النظام السياسي القائم establishment … لقد سعت هذه الكاتبة الجديدة إلى الذهاب إلى أبعد من خانة “النسائية” التي تضعها كما أسلفنا بين المطرقة والسندان من خلال المطالبة بأخذ الخصوصية بعين الاعتبار، أي بالمساواة بين “هو” المهيمن و”هي” الساعية صوب الهيمنة، وضياع هذه “الهوية” مرة بسبب التطويق الأخلاقي، ومرة بسبب تمييع القضايا من خلال الاستجابة – ولو الشكلية – لهذه المطالب النسائية.

هذا الوعي أنتج إذن خطابات عديدة، من بينها صيغة “الاسترجال” (أو الحياد الجنسي) التي أصيبت بها البطلات حينا ووجهات نظر الكاتبات حينا آخر. فسعيدة هوارة مثلا تروي أحداث روايتها ( الشمس في علبة) على لسان امرأة فلا تدمج أي هاجس نسوي على الاطلاق كأن روايتها سرد ذكوري رجالي من أعلى طراز . . . وكذلك أحلام مستغانمي (في ذاكرة الجسد) التي تسرد بضمير متكلم ذكر . . . ثم تتحدث – في “فوضى الحواس” و”عابر سرير” بلسان المرأة فتحولها إلى رجل بامتياز، إنها امرأة ألقت تاء التأنيث جانبا، ولا تهرب فضيلة الفاروق ولا إنعام بيوض وخاصة هذه الأخيرة – من نزعة الاسترجال هذه، مؤنثة جمع المذكر السالم أو مذكرة جمع المؤنث السالم! . . . فلدى إنعام بيوض في “السمك لا يبالي” لهجة باردة مفرغة من الانفعال تستمر على امتداد أكثر من مائتي صفحة، قد تكون هي اللهجة اللامبالية التي يعلن عنها العنوان . . . واللغة هي لغة سردية واصفة غير شعرية، تفصيلية غير مجازية أي ذكورية لا نسائية، وبالتالي فهي لغة الكاتبة لا لغة الروائية النسائية .

ونجد بالإضافة إلى هذه الهواجس الموضوعاتية جانبا جديرا بالاهتمام هو نزعة التجديد الشكلي والعدول الأسلوبي ويتجلى ذلك أساسا في اللغة الشعرية التي اشتهرت بها احلام مستغانمي، وهو أمر تطور بصورة الكتابة النسائية على درجة نشعر معها أحيانا بأن الكاتب الرجل يعجز عن بلوغها. . .

نشير كذلك في الإطار الذي سميناه بتمهيد امراة ما قبل الحراك الرمزي للسياق الحراكي إلى أهمية ظاهرة مساءلة المرأة للكتابة، ووضعها الرواية أمام المرآة، وهو هاجس حاضر لدى مستغانمي حد الهوس، وكذا في “اكتشاف الرغبة” وهي نصوص تبدو تمثل “الرواية ضد الرواية” أو النص الذي يقف ضد مكتسباته السابقة في فعل رمزي خطير يهدف إلى قلب نظام السرد الكلاسيكي المنظم المنسجم الذي هو وليد عالم منظم منسجم يكاد يغرينا بالانتماء إليه. ولا بد من الاعتراف بأن حضور هذا النوع من التأمل الشكلي والمضموني، وهذا القلق الجمالي كله دال على تطور كبير في الوعي الكتابي، وعلى الخطوة الجبارة التي تخطتها الكتابة النسائية في الجزائر رغم حداثة السن ونعومة الأظافر… وكل هذا نجده يسير في الشارع الجزائري وإن كان يضمر من مكوناته أكثر مما يعلن.

فيصل الأحمر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يرجى تعطيل مانع الإعلانات.