
التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء
قال تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: 37]
لا شك أن التجارة هي من أفضل الأعمال الدنيوية التي يعمل فيها الناس لتحصيل أرزاقهم وأرزاق أهليهم وعيالهم، وخدمة مجتمعاتهم، ومما يتميَّزُ به التاجر المسلم عن غيره: تمسُّكُه بقِيم دينه، وتوكُّلُه ولذلك كان لا بدَّ لكل تاجر مسلم في هذا الزمان أن يتعرَّف على الأخلاق والمأمورات والمنهيَّات التي تتعلَّقُ بعمله؛ وذلك لانتشار المحرَّمات، وكثرةِ الشُّبهات، التي تعتري أكثرَ المعاملات، فتحرفُها عن الضوابط الشرعيَّة التي أمر الله تعالى بها.
وإن من أبرز الأخلاق التي ينبغي على التاجر المسلم أن يتحلَّى بها ما يلي:
أولا: الصدق والأمانة: ويظهر ذلك من خلال صدقه في وعودِه، ووفائه بها، وصدقه في قوله ووصفه لسلعتِه، وصدقه في بيان مقدار ربحه إن أظهر ذلك، وأما أمانتُه فتظهر من خلال عدم خيانته وخديعته لمن يتعاملُ معه، بل إنه يبذل له النصحَ، ويُوجِّهه إلى الخير الذي يحبُّه لنفسه، والتاجرُ الصدوق الأمين يَحظَى بفضل الله وكرامته في الدنيا والآخرة، كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيِّين والصدِّيقين والشهداء)).
وليعلم أولئك الذين يتنكَّبون طريقَ الصدق والأمانة وتقوى الله تعالى في تجارتهم وتعاملاتهم – بأنهم سيُحشرون يوم القيامة فُجَّارًا؛ فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المُصلَّى يومًا فرأى الناس يتبايعون، فقال: ((يا معشر التجار))، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم وأبصارَهم إليه، فقال: ((إن التجار يُبعثون يوم القيامة فُجَّارًا، إلا مَن اتَّقى الله، وبرَّ، وصدق)).
ثانيا: الابتعاد عن الشبهات: وذلك بأن يتحرَّى التاجرُ صحةَ معاملاته وموافقتها لشرع الله، ويبتعد عما يشتبه فيه منها، فلا يسعى للبحث عن المخارج والرُّخَص، والآراء الشاذَّة؛ ليصحِّحَ معاملة قام بها، أو ليبرِّرَ ربحًا جاء مِن تعاملٍ فيه شبهة حرام أو رِبًا، فقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن نبتعِدَ عن الشبهات، فقال صلى الله عليه وسلم: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)).
ثالثا: الإكثار من الصدقات، وعدم الاكتفاء بالفريضة: وذلك لأن أكثرَ التجَّار يقعون أثناءَ تعاملِهم وتجارتهم في اللَّغْو والحَلِف والشبهات، خصوصًا في زماننا هذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشرَ التجَّار، إن البيع يحضرُه اللَّغْو والحلف، فشُوبوه بالصدقة)).
رابعا: التبكير في طلب الرزق: فالرزق في البكور، والتاجرُ الذي يتأخر في الذَّهاب إلى تجارته يفوته خير كثير، ويُحرَمُ بركة الرزق التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم للمبكِّرين، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لأمتي في بكورِها))، وقد كان أحدُ الصحابة يبعث تجارتَه من أول النهار، فأثرى وكثر ماله.
خامسا: التيسيرُ والتغاضي عن المعسرين: فمن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه، ولا ينبغي للتاجر المسلم أن يُضيِّق على مَن يُعامِلهم بكثرة المطالبة، مع علمه بضيق ذات يدهم، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لمن يتحلَّى بخلق السماحة والتيسير في اقتضاء حقِّه من الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: ((رَحِمَ الله رجلاً سَمْحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)).
سادسا: إقالة النادم في بيعته: فهذا خلقٌ كريم من أخلاق التجار الأبرار، الذين يَطمعون فيما عند الله تعالى من الرحمة والرضوان، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أقال مسلمًا، أقاله الله عثرته)).
كما أنه من المفيد هنا أن نستعرِضَ جملةً من السلوكيات المحرَّمة التي ينتهِجُها بعضُ التجَّار، مُتنكِّبين شرعَ الله تعالى وأوامرَه، آكلين أموالَ الناس بالباطل، من ذلك:
1- التطفيف: وهو أن يتلاعَبَ التاجرُ في الكيل أو الوزن أو العدد، وقد حذَّر الله تعالى من ذلك أشدَّ التحذير، وتوعَّد فاعلَه بالعذاب الشديد، فقال سبحانه: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 1 – 6]، بل إن الله تعالى أهلَك قومَ مدين؛ لتطفيفهم الكيل والميزان، وذلك لما جاءهم شعيب عليه السلام فنهاهم عن ذلك فأبَوْا، فكانت عاقبتهم الهلاك والدمار.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بوزَّانٍ، فقال له: ((زن وأرجح))؛ وذلك خشيةَ أن يدخل هذا الوزَّان في الوعيد الخطير، الذي أوعد الله به المطففين.
2- الغش: وهو أن يخفي التاجرُ عيوبَ بضاعته، ويُظهِرَ محاسنَها، أو يزوِّر تاريخ صلاحيتها، أو يكذِبَ في بلد الصنع والإنتاج، أو يكذب في مواصفاتها وجودتها، أو غير ذلك من أنواع الغش التي كَثُرت في زماننا، وهو كبيرة من الكبائر، تَجمَعُ في طيَّاتها جملة من الكبائر المحرَّمة؛ كالكذب، والخيانة، والتزوير، وأكل الحرام.
وقد حذّرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الغشِّ، وأخبر بأن الغاشَّ ليس على طريقة المسلمين، ولا على منهجهم، فقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على صُبْرة طعام، فأدخَلَ يدَه فيها؛ فنالت أصابعُه بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحبَ الطعام؟))، قال: أصابته السماءُ يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلْتَه فوق الطعام؛ كي يراه الناس، من غشَّ فليس مني)).
3- الحلف الكاذب: وهو أن يحلف التاجرُ بالله كاذبًا؛ ليقنع المشتريَ بسعر البضاعة، أو بجودتها، أو بصلاحيتها، أو ليخفيَ عُيوبها، أو مصدرها، أو لأسباب أخرى، وقد نهى الله تعالى عن بذل الأَيْمان لغير ضرورة، فقال جل جلاله: ﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ﴾ [القلم: 10]، والحلف في البيع مكروهٌ ولو كان البائع صادقًا؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحلفُ مَنْفَقةٌ للسلعة، مَمْحَقَةٌ للبرَكة))[15]، أما إذا كان البائع كاذبًا في حلفه، فهي كبيرة من كبائر الذنوب، حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم أشدَّ التحذير، وأوعد فاعلَها بالعذاب الأليم من رب العالمين، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثةٌ لا يكلِّمُهم الله يوم القيامة، ولا يَنظُرُ إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم))، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، مَن هم يا رسول الله؟ قال: ((المُسْبلُ، والمَنَّان، والمُنَفِّقُ سلعتَه بالحلف الكاذب)).
4- الاحتكار: وهو حبسُ أقواتِ الناس وحاجاتهم؛ بقصْدِ إغلائها، واستغلال حاجة الناس إليها، مما يسبب إضرارًا وتضييقًا على أفراد المجتمع المسلم، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل، وأخبر بأن فاعلَه آثم خاطئ، فقال: ((مَن احتكر، فهو خاطئ))، وقال: ((لا يَحتكِرُ إلا خاطئٌ))[18]، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يُعجِّل العقوبة للمحتكر في الدنيا قبل الآخرة؛ معاملةً له بنقيض قصده، فهو أراد من حُكْرَتِه أن يزيد في ربحِه، فعاقبه الله تعالى بذَهاب نعمتَيِ العافية والمال، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن احتكر على المسلمين طعامًا، ضربه الله بالجذام والإفلاس)).
ونخلص مما سبق إلى أنه لا انفكاكَ بين التجارة وقيم الإسلام وضوابطه، وأنه كلما اقترب التاجر من أخلاق دينه وقِيَمه، كان أقرب إلى الله تعالى، وأقرب إلى قلوب الناس، وأنفع لنفسه ولأبناء أمته ومجتمعه.
د. طه فارس