
الاحتفاء والفرح بالطاعات..الجزاء والثواب تعجيل وتأجيل في الدارين
قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ سورة يونس الآية 58
إن المتأمل في نصوص القرآن والسنَّة يلحظ ما جاء فيها من الحفاوة بأهل الطاعة، والترغيب في أن يكون المسلمون من أهلها، المبادرون إليها، ويلحظ المؤمنُ أيضًا ما جاء من الحفاوة العظيمة بالصيام وأهله، كما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في الحديث القدسي، الذي يرويه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه تبارك وتعالى؛ أنه قال: “كلُّ عملِ ابنِ آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذ كان يوم صومِ أحدِكم فلا يرفث، ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ، أو قاتله، فليقُل: إني امرؤٌ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوفُ فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه”.
وأتوقف وإياكم عند هذه الجملة الأخيرة: “للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه”. وجاء في رواية “للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه”، وهنا يبحث العلماء رحمهم الله معنى هذا الفرح؟ وكيف يكون؟ وما معناه ودلالته في هذا الحديث الشريف؟
والفرح لذة في القلب و كيف أن المؤمن بات يدرك ذلك بما هيَّأ الله له من الطاعة، وهنا حين يقول عليه الصلاة والسلام: “للصائم فرحتان” فبيَّن أن ثمة واحدة معجَّلة هنا في الدنيا، والأخرى في الآخرة؛ أمَّا فرح المؤمن عند فطره فهذا له معنيان: الأول: وهو أن النفوس قد جُبلتْ على أنها تميل إلى ما يُلائمها من الطعام والشراب ونحوهما، فإذا قطع عنها هذا، ومُنعتْ عن ذلك لسبب من الأسباب ولعارض مِن العوارض، ثم تهيَّأ لها هذا الذي مُنعَت منه، فإن ثمة من الفرح ما يكون عند الإنسان، وهذا أمر طبيعي جبلِّي، وبخاصة عند اشتداد حاجة الإنسان إلى هذا الذي انقطع عنه، ولكم أن تتأملوا حال ذلك الرجل الذي ذكَر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصته؛ حينما أضلَّ راحلته، وعليها طعامه وشرابه، وأيقن أنه سيموت، فآوى إلى شجرة؛ قال أموت عندها، فإذا به يدركه النوم والإعياء، فلما استيقظ وأفاق نظر فإذا براحلته عند رأسه فأدركه فرح عظيم، حتى قال حامدًا لله: “اللهمَّ، أنتَ عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدة الفرح”.
وهكذا جبلَّة الإنسان حينما يدرك هذا الذي مُنع منه فإنه حينئذ يفرح بإدراكه، ولذلك يكون للمؤمنين هذا الفرح، وهو فرح طبيعي، والمؤمن يضيف إلى هذا الفرح الطبيعي شكْرَ الله جل وعلا وحمده فهو يدرك أنَّ الذي تفضَّل وأنعَم، وأعطى وتكرَّم، هو الرب جل وعلا، ولذا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: “إنَّ الله ليرضَى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشَّربة فيحمده عليها”؛ هكذا حال المؤمن؛ كل نعمة تتجدَّد له فهو يحمد ويشكر ربه جل وعلا، يحمده على كل نعمة تتجدَّد، وعلى كل نعمة تتراءى بين ناظريْه، والمؤمن بل الخَلْقُ جميعًا مُحاطُون بأنواع النعم، ولكن الفرق بين المؤمن وبين غيره هو الشكر؛ ولذا قال الله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]، والله سبحانه يحب الشاكرين، ويضاعف للحامدين كما قال عز من قائل: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]
فهذه هي الحال الأولى التي تكون للمؤمن حينما يفرح لدى دُنُوِّ وقتِ المغرب، وتقريب إفطاره بين يديه، وثمة حال أخرى مصاحبة لهذا الفرح؛ وهو فرح المؤمن بأنه أتم طاعته لربه، نعم إن للطاعة لذة يدركها أهل الإسلام، ويتفاوتون في درجاتها، إن المؤمن الذي أدرك الإيمان شِغَافَ قلبِه، وحلَّ في سُويدائه، يكون فرحُه بطاعته لربه أعظم من فرحِه بما يُدرك من أموال الدنيا؛ لأنه يعلم أنَّ الطاعة التي وُفِّق إليها أجرُها ثابتٌ، وثمرتُها مدركةٌ في الدنيا وفي الآخرة باقية له، يلقاها حين يلقى ربه جل وعلا، ولذلك يصيبُه هذا الفرح أنَّه أتم يومه صائمًا لله جل وعلا، ولذلك أكملُ الناس فرحًا في لحظات الفطر هم الذي حافظوا على يوم صومهم، حافظوا عليه من أن يخدشه أو يقلل أجره وثوابه شيءٌ من الأمور، وهم يستحضرون قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث القدسي: “الصومُ جُنَّةٌ”؛ نعم الصوم كالتاج والوقاية التي تمنع الإنسان من أن يُخالط الآخرين في آثامهم، فهو حافظَ على أجر صومِه لا يريد أن ينقصه، وفي هذا يستحضر المؤمن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “مَن لم يَدَعْ قولَ الزورِ والعملَ به والجهلَ، فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه”؛ فحينما يدنو وقتُ المغرب، وتتضيَّف الشمس للغروب، يشعر المؤمن بلذة عظيمة؛ هذه اللذة: أنه أمضى يومه طائعًا لربه، قائمًا بما أوجب سبحانه؛ فهو مغتبط فرح فرحًا عظيما.
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يستحضر هذه الحال الثانية؛ لأنها هي الأكمل، وهي الأشرف، وهي التي لا يدركها كثير من الناس، نعم لا يستحضرها كثير من الناس، ذلك أن المؤمن طيلة يوم صومه يستشعر أنه في عبادة، وأنه في كنف الله جل وعلا، لا يريد أن يخدش هذا الصوم بشيء يقلِّل ثوابه وأجره عند الله جل وعلا، ولذا جاء في الأثر عن السلف رحمهم الله: حرصهم على أن يكونوا متميِّزين في يوم صومهم، لا يشاركون أهل اللهو في لهوهم، ولا أهل الجهل في جهلهم.
وهذا عمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “فإنْ قاتله أحد، أو سابَّه، فليقل: إني امرؤ صائم”، ولذا أيها الإخوة المؤمنون، تكون هذه الفرحة على هذا المنوال، وهي فرحة بالطاعة يجدها المؤمن في عموم الطاعات، فالمسلم حينما يقول متمًّا صلاته: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، تدركه في هذه اللحظات بهجة وطمأنينة وراحة وسعادة لا يمكن أن تحقَّق بأي عقار من عقاقير الدنيا، ولا بشيء من أموالها؛ لأنها حالةٌ نفسية لا يمكن أن تحصَّل إلا بطاعة الرب جل وعلا، والناس يتفاوتون في هذا تفاوتًا عظيمًا بحسب ما كمَّلوا من طاعتهم لربهم جل وعلا، وهكذا في عموم الطاعات؛ كلما فرغ المؤمن من طاعة من طاعات ربه جل وعلا، أدركه هذا الفرح والسرور والغبطة التي يشعر بها في قلبه، ولذا قال ربنا جل وعلا: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ﴾: بالقرآن وبالإسلام وبطاعة الرحمن؛ هذا الذي يستحق الفرح به، هذا الذي تكون الفرحة به أعظم من أي شيء من أمور الدنيا؛ لأن الله قال: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾، هذا هو الحقيق بالفرح، هذا هو الذي تقوم إليه النفوس، وتشرئب الأعناق ليكون المؤمن من أهل ذلك، ﴿خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾: خير من الدنيا كلها بحذافيرها، ولذلك لفتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى ما يكون من هذه اللذة والحلاوة التي يشعر بها الإنسان، وهذا يدل عليه ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: “ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار”؛ والشاهد هنا: قوله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان”، دل هذا على أن الإيمان والطاعات لها حلاوة ولذة، مَن لم يدركها فإنه لم يصل إلى القدر الذي يبلِّغه هذه المنزلة العالية، وهذا راجعٌ لتفريطٍ فرَّط به.
وأما النوع الثاني من الفرح الذي يدركه الصائم: ففرحُه عند لقاء ربه، وهذا يكون فيما يجده من ثواب الصيام عند ربه جل وعلا، مُدَّخَرًا، لم يُنقص؛ لأن الصيام له مزيةٌ: أنَّ الغرماء وأصحاب الحقوق من البشر لا يُقاصُّون المسلمَ في أجر الصيام؛ لأنه من المعلوم أنَّه في يوم القيامة إذا أراد الغرماءُ والخَلْق أخذَ حقٍّ مِن حقوقهم مِن هذا الذي أخطأ عليهم مِن الناس، فإن العُملة الدارجة هي الحسنات، يُؤخذ من حسناته ويُعطون، فجعل اللهُ للصيام مزيةً: أن الغرماء لا يُدركون حسنات الصيام، فهي محفوظة بحفظ الله، ممنوع أن يُؤخذ منها لأحد من الناس؛ “كل عملِ ابنِ آدم له؛ إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به”، فيجد المؤمن هذا الثواب أحوجَ ما يكون إليه، فيدركه من الفرح ما الله به عليم؛ لأن هذا العمل ثابت مستقر، قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل: 20]، وقال سبحانه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ [آل عمران: 30]، وقال جل وعلا: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7].
أنَّ هذه الفرحة التي تبلغ قلب المؤمن في لحظة فِطرِهِ، وكذلك عند لقاء ربه، ينبغي أن تكون مُستحضَرةً بين يَدَيِ المسلمِ الذي تلبَّس بهذه العبادة العظيمة؛ لأن المؤمن الذي يستشعر ذلك، ويستحضر دلالة هذا النص العظيم؛ “للصائم فرحتان يفرحهما: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه” يجعله مغتبطًا؛ فإذا رفع إلى فيه الطعام والشراب عند فطره من الصوم تذكَّر تلك الفرحة الكبرى عند لقائه لله جل وعلا.
د. خالد بن عبدالرحمن