
استباق الخيرات في رمضان والاستثمار في خصوصية أيامه ولياليه
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” سورة الحج الآية 77
شهر رمضان، شهر الصيام والقيام، شهر الصلاة والقرآن، الشهر الذي تُفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفّد مردة الشياطين والجان، الشهر الذي فيه الليالي العشر، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومع هذا يدخل وتمضي جملة من أيامه ولياليه، ويظل بعضنا نائما متكاسلا، يغط في سِنَةٍ عميقة، ويغرق في غفلة سحيقة تمر قوافل الطائعين من أمامه، وتتنوع أعمال المشمرين من حوله، وترى عيناه من الخير ألوانا، وتسمع أذناه من البِرِّ أنواعًا، مساجد تلج مآذنها بالقرآن، وصلاة وقنوت وقيام، وعمرة وزيارة ودعاء، وزكوات وصدقات وهبات، ودعوة وتوعية و تفطير، ومباركون يقصدون الجمعيات الخيرية لدعمها، ومحسنون يتلمسون ذوي الحاجات فيقضون حاجاتهم، ورحماء يطلبون المكروبين فينفسون عنهم، ويمر كل هذا بالغافل اللاهي وكأنه لا يرى ولا يسمع، أو كأنه غير معني بالخير، ولا محتاج للأجر؛ بل ويتمادى به التهاون، ويأخذ به الفتور، حتى يقصر في الواجبات، ويضيع الصلوات.
في الصحيحين عن أبي واقدٍ الليثي – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنانِ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة، فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدُهم فأوى إلى الله، فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه”.
إن في الحياة فرصا ثمينة للطاعة، وإن فيها مواسم غالية لاكتساب الأجر، وإن في تنوع العبادات مجالا لكل راغب في تقديم الخير لنفسه.
وإن رمضان مع كونه أياما معدودات تمر مر السحاب، فهو الموسم العظيم الذي قد عرفتم فضله، وعلمتم شرفه، ووعيتم قدر مضاعفة الحسنات فيه، وكثرة سبل الخير ومسببات الأجور في أيامه ولياليه، ومع هذا فالقلوب فيه مقبلة، والصدور للخير منشرحة، والركب سائر، والجماعة منطلقة، والمشمرون الجادون متوفرون، تمتلئ بهم المساجد والجوامع، فطوبى لمن أوى إلى ربه وانطرح بين يديه، وصدق في الرغبة إليه، ويا لخسارة من لم يجدْ له في رمضان مكانا مع السائرين إلى الله، وانصرف إلى شهواته ودنياه، أو أعرض وتراجع على قفاه، ذاك والله هو المحروم حقا والمغبون.
عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صعد المنبر فقال: ” آمين، آمين، آمين”، قيل: يا رسول الله، إنك صعدتَ المنبر فقلتَ: “آمين، آمين، آمين”، فقال: “إن جبريل – عليه السلام – أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفرْ له، فدخل النار، فأبعده الله، قلْ: آمين، فقلتُ: آمين”.
وعن أنس بن مالكٍ – رضي الله عنه – قال: دخل رمضانُ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهرٍ، مَن حُرِمها فقد حُرم الخيرَ كله، ولا يُحرم خيرَها إلا محرومٌ”.
وعن أبي أمامة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن لله – تبارك وتعالى – عُتقاءَ في كل يومٍ وليلةٍ، وإن لكل مسلمٍ في كل يومٍ وليلةٍ دعوةً مستجابةً”.
وإذا المرء في ليله لم يزاحم القائمين، ولم يُسمعْ له دوي بالقرآن مع التالين، ولم يفطّر صائما، ولم يكن له سهم في عمل بر، ولم يَرفع إلى الله كفّا بدعاء؛ بل قضى شهره نوما وكسلا، وتركا للفرائض ووقوعا في المحرمات، فأي قيمة لحياته حينئذ، وأي بر منه لشهره؟ وإذا لم يكن هذا هو الإعراض والحرمان والإبعاد، فما الإعراض والحرمان والإبعاد إذا؟.
فلنسارع ولنسابق، ولنصبر أنفسنا، ولنصابر ولنرابط امتثالا لأمر الله – عز وجل – حيث قال: ” وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ” [ال عمران: 133]. وقال – سبحانه -: ” سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين امنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ” [الحديد: 21].
وقال – تعالى -: ” واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ” [الكهف: 28].
وقال – جل وعلا -: “يا أيها الذين امنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ” [ال عمران: 200].
وقال – تعالى -: ” يا أيها الذين امنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة واتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ” [الحج: 77، 78].
عبد الله بن محمد