
أحوال الاستغفار ووجوب المداومة عليه والتوبة
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ سورة النساء الآية 64
المشروع للعبد أن يكثر دائما من الاستغفار في كل الأحوال والمناسبات؛ يقول الحسن – رحمه الله -: “أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة؟!”؛ “جامع العلوم والحِكَم” (2/ 408).
فالاستغفار مشروع في كل حال ومناسبة، ولكنه يجب عند حصول الذنوب، ويُستحب بعد الأعمال الصالحة؛ وذلك ليكون كفّارة لما قد يقع فيها من خلل أو تقصير، وإن لَم يكن هناك تقصير ولا خلل، كان هذا الاستغفار كالختم والطابع لتلك الأعمال.
وهناك أحوال ومناسبات “أزمنة وأمكنة”، يكون للاستغفار فيها مزيد فضل، نذكر بعضها:
أولا: فمن ذلك الاستغفار بعد الوضوء؛ لِمَا روى أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَن توضَّأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كُتِب في رَقٍّ، ثم جُعِل في طابع، فلم يُكْسَر إلى يوم القيامة”.
ثانيا: الاستغفار عند دخول المسجد والخروج منه؛ لِمَا ورَد عن فاطمة بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالتْ: كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلَّم، وقال: “رب اغفر لي ذنوبي، وافتَحْ لي أبواب رحمتك، وإذا خرَج صلى على محمد وسلَّم، وقال: “رب اغفر لي، وافتَحْ لي أبواب فضْلك”.
ثالثا: الاستغفار عقب الصلاة؛ لِمَا جاء في صحيح مسلم عن ثوبان – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله إذا انْصَرف من صلاته استغفَر ثلاثًا، وقال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركْتَ يا ذا الجلال والإكرام»، قال الوليد: فقلتُ للأوزاعي: كيف؟ قال: تقول: “أستغفر الله، أستغفر الله”.
وقد رُوِي في الحديث الذي أخرجَه الحاكم في المستدْرَك والترمذي، وصحَّحه الألباني: عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: «مَن قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات، غَفَر الله ذنوبَه، وإنْ كانت مثل زَبَدِ البحر».
وأخرَج الترمذي وأبو داود وصحَّحه الألباني، عن هلال بن يَسَار بن زيد مولَى النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: سَمِعت أبي يُحَدِّثُنيه عن جَدِّي: أنه سَمِع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «مَن قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غُفِر له وإنْ كان قد فرَّ منَ الزحف».
رابعا: الاستغفار بعد الإفاضة مِن عرَفة والفراغ من الوقوف بها؛ لقوله – تعالى -: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 199].
خامسا: الاستِغفار عند النوم؛ لما أخرَجه الترمذي في جامعه، وحسَّنه الألباني: عن أبي سعيد -رضي الله عنه -: «مَن قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات، غَفَر الله له ذنوبَه، وإنْ كانتْ مثل زَبَد البحر».
سادسا: ومِن آكد أوقات الاستِغْفار، وقت السَّحر “آخر الليل”؛ يقول الله – تعالى – عن عباده الصالحين: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 18]، وقال – تعالى -: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 17].
وثبت في الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ينزل ربُّنا – تبارك وتعالى – كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، حين يَبقى ثُلُث الليل الأخير، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأُعطيه؟ مَن يستغفرني فأغْفر له؟».
وللسلف مع الأسحار أحوال وأسرار، فهذا عبدالله بن عمر كان يُصلي من الليل، ثم يقول: “يا نافع، هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقْبَل على الدعاء والاستغفار حتى يُصبح”.
وعن حاطب قال: “سمعتُ رجلاً في السَّحَر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب، أَمَرتني فأَطَعْتُك، وهذا السحر، فاغفرْ لي”، فنظرتُ، فإذا هو ابن مسعود – رضي الله عنه.
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: “كنَّا نؤمَر – إذا صلَّيْنا من الليل – أن نستغفرَ في آخر السَّحَر سبعين مرَّة”؛ “شُعَب الإيمان” (3/ 173).
وهذا وكيع – كما يقول أصحابه الذين كانوا يلزمونه – أنه: “كان لا ينام حتى يقرأ جزءَه من كلِّ ليلة ثُلُث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل، فيقرأ المفصَّل، ثم يجلس، فيأخذ في الاستغفار حتى يَطلُع الفجر”؛ “سير أعلام النبلاء”، (9/ 148 – 149).
سابعا: الاستغفار في ختْم المجالس؛ لما أخرَجه أحمد وقال شعيب الأرنؤوط: “إسناده صحيح على شرْط مسلم”: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي -صلى الله عليه وسلم – قال: «مَن جلَس مجلسًا كَثُر فيه لَغطُه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك ربَّنا وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كان كفَّارة لما كان في ذلك المجلس».
وعند أبي داود وقال الألباني: “صحيح”، دون قوله ثلاث مرات: عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال: كلمات لا يتكلَّم بهنَّ أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات، إلاَّ كُفِّر بهنَّ عنه، ولا يقولهنَّ في مجلس خيْرٍ ومجلس ذِكْر، إلاَّ ختَم له بهنَّ عليه، كما يَختم بالخاتم على الصحيفة: “سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك”.
ثامنا: ومن الأحوال المناسبة للاستغفار، الاستغفار في ختام العُمر؛ قال ابن القَيِّم – رحمه الله -: “التوبة نهاية كل عارف، وغاية كل سالك، وكما أنها بداية فهي نهاية، والحاجة إليها في النهاية أشدُّ من الحاجة إليها في البداية، بل هي في النهاية في محلِّ الضرورة، فاسمع الآن ما خاطَب الله به رسولَه في آخر الأمر عند النهاية، وكيف كان رسول الله في آخر حياته أشدَّ ما كان استغفارًا وأكثره”؛ “مدارج السالكين”، (3/ 434).
فقد قال الله – تعالى – لنبيِّه – صلى الله عليه وسلم – عند اقتراب أجَله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: 3].
فقد جعل الله فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، علامةً على قُرب نهاية أجَل النبي – صلى الله عليه وسلم – وأمَرَه عند ذلك بالاستغفار.
وجاء في الحديث – كما عند البخاري ومسلم – عن عائشة – رضي الله عنها – أنَّها قالت: سَمِعت النبي – صلى الله عليه وسلم – وأَصْغَيت إليه قبل أن يموت – وهو مُسْنِد إليّ ظهرَه – يقول: «اللهم اغفر لي وارحمني، وألْحِقني بالرفيق الأعلى».
فينبغي للعبد مُلازمة الاستغفار في كلِّ وقت، والإكثار منه في هذه الأوقات والأحوال المذكورة؛ ليحوز المستغفر على هذه الثمرات الجليلة، والفوائد الكثيرة.
عبده قايد الذريبي