متابعات

آكسل.. عندما يخرج النقاش من دائرة التاريخ إلى “عفن الإيديولوجيات”!

معالجة "الأزمة الهوياتية" في الجزائر.. تصحيح يحمي البلد من "السردية الكولونيالية"

ككُل مرة يكون فيها الحدث موضوعا يتعلق بالتاريخ الأمازيغي ومختلف شخصياته ومناسباته، إلا ويتصاعد الجدل بشكل كبير جدا ليصل حد التطرف بعيدا كُل البعد عن القراءة التاريخية السليمة لمختلف الأحداث، مُجرياتها، سياقاتها وخلفياتها، وبعد تنصيب تمثال للأمير الأمازيغي آكسل أو “كُسيلة” مثلما هو معروف بمحور دوران مدينة بوحمامة بولاية خنشلة، ثم إزالته بسبب “عدم احترام الجهة التي قامت بتنصيبه للإجراءات القانونية لا أكثر” حسب ما أكده بيان المجلس البلدي لبلدية بوحمامة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رغم أن السُلطة الجزائرية تسعى بشكل واضح في السنوات الأخيرة لمعالجة ما يُمكن وصفه بـ”الأزمة الهوياتية” لمواجهة كل الأطراف التي تسعى لتقزيم تاريخ هذه الدولة على غرار “السردية الكولونيالية” التي اتضحت رؤيتها في تصريح سابق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين حاول التطاول على الأمة الجزائرية بنكران أي تاريخ لها قبل “الإستعمار”، ليأتي الرد قويا جدا له وللمدرسة المشرقية (للمفارقة) بأن زار رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون زنزانة الملك الأمازيغي يوغرطة في روما، مؤكدا بذلك أن الجزائر هي سليلة نوميديا وأن تاريخها لن يرتبط بأي “جهة كولونيالية” مهما كانت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذكر ابن خلدون متحدثا حول ما كان يجري في شمال إفريقيا من استخفاف وإهانة تعمدها عقبة لـ آكسل عندما أسره تماما مثل الإهانة التي ألحقها بأبي المهاجر الدينار عندما أوثقه بالحديد، ويقول ابن خلدون في تاريخه: “..وكان عقبة في غزاته يستهين كسيلة ويستخف به وهو في اعتقاله، وأمره يوما بسلخ شاة بين يديه فدفعها إلى غلمانه، وأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه، وانتهره، فقام إليها أكسل مغضبا، وجعل كلما دس يده في الشاة يمسح بلحيته، والعرب يقولون: ما هذا يا بربري؟ فيقول: هذا جيد للشعر، فيقول لهم شيخ منهم: إن البربري يتوعدكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أصبح الموضوع أرضية خصبة لصراع كبير جدا استغلته العديد من الأطراف لنشر عفنها الإيديولوجي وكُرهها الكبير لكل ما هو أصيل هذه الأرض، دونما إدراك منها لأبسط جزئيات الصراع بين آكسل وعقبة وما إن كان صراعا جوهره الإسلام أم أنه صراع سياسي سنة 62 هجرية ودفاع عن الأرض ضد سلطة أموية قائدها يزيد بن معاوية صاحب التاريخ الأسود، والذي ثار عليه في نفس الفترة خيرة من يُمثلون الإسلام في الحجاز والعراق، الأمر الذي نتج عنه أحداث تاريخية لا تزال تؤثر على العالم الإسلامي حتى اليوم.

ورغم أن السُلطة الجزائرية تسعى بشكل واضح في السنوات الأخيرة لمعالجة ما يُمكن وصفه بـ”الأزمة الهوياتية” لمواجهة كل الأطراف التي تسعى لتقزيم تاريخ هذه الدولة على غرار “السردية الكولونيالية” التي اتضحت رؤيتها في تصريح سابق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين حاول التطاول على الأمة الجزائرية بنكران أي تاريخ لها قبل “الإستعمار”، ليأتي الرد قويا جدا له وللمدرسة المشرقية (للمفارقة) بأن زار رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون زنزانة الملك الأمازيغي يوغرطة في روما، مؤكدا بذلك أن الجزائر هي سليلة نوميديا وأن تاريخها لن يرتبط بأي “جهة كولونيالية” مهما كانت، وإلى جانب ماكرون تحاول العديد من الأطراف “مشرقية الهوى” جاهدة لخلق صورة سوداء عن الكثير من الرموز التاريخية الأمازيغية في صورة الملك ماسينيسا مؤسس نوميديا التي تعتبر أقدم كيان سياسي في شمال إفريقيا والأم الشرعية للجزائر بحدودها الحالية التي يدّعي البعض أنها حدود استعمارية وأن لا وجود تاريخي لها.

ولأن الموضوع أكبر بكثير من أن يكون صراعا يخص شخصية واحدة، فإن تنصيب تمثال رائع التصميم للنحات عبد الرزاق بوسكار، وبأموال تبرع بها مواطنون أوراسيون غيرة منهم على تاريخهم العريق، كان فرصة لأصحاب الإيديولوجيات العفنة من أجل نشر سمومهم في عقول الناس بمغالطات تاريخية تستغل جهل الكثيرين بسردية المنتصر في التاريخ الإسلامي وتجعلهم يعتقدون أن المقاومة لأجل الأرض أمام جيش أموي مُرسل من يزيد بن معاوية هي حرب ضد الدين، أمّا المقاومة ضد نفس الجيش الأموي ونفس الملك من طرف الحسين بن علي أو عبد الله بن الزبير أو صحابة وأهل المدينة المنورة الذين استبيحت دماؤهم في واقعة “الحرّة” الشهيرة هي على العكس، صراع “جائز له أسبابه” بأجر للمخطئ وأجرين للمصيب، ولا ينبغي الخوض فيه لأن الطعن في أعداء السلطة الأموية هنا هو طعن في شخصيات دينية مقدسة ومُبجلة، عكس ذلك الغريب البربري المُدافع عن أرضه وعِرضه في شمال إفريقيا والذي تؤكد المصادر التاريخية أنه أسلم وكان صديقا لأبي المهاجر الدينار، مع الإشارة إلى أن أول مسجد في الجزائر بُني في ميلة على أنقاض كنيسة سنة 59 هجرية، أي 3 سنوات قبل إرسال عقبة للمرة الثانية، مع العلم أن عقبة لم يكن صحابيا كما يشير البعض فهو الذي “وُلد على عهد رسول الله ولا تصح له صُحبة” مثلما يؤكده أهل السير في التاريخ الإسلامي على غرار “ابن عبد البر” في كتابه: “الاستيعاب في معرفة الأصحاب”.

ويكتب ابن الأثير في كتاب الكامل في التاريخ: “هذا كسيلة البربري كان قد أسلم لما وُلي أبو المهاجر إفريقية وحسن إسلامه وهو من أكابر البربر وأبعدهم صوتا، وصحب أبا المهاجر فلما ولي عقبة عرّفه أبو المهاجر محل كسيلة وأمر بحفظه، فلم يقبل واستخف به وأتى عقبة بغنم فأمر كسيلة بذبحها وسلخها مع السلاخين، فقال كسيلة: هؤلاء فتياني وغلماني يكفونني المؤونة، فشتمه (أي عقبة) وأمره بسلخها ففعل، فقبّح أبو المهاجر هذا عند عقبة…”، ويكتب ابن الأثير في كتابه “الكامل” أحد أبرز أمهات الكتب في التاريخ الإسلامي حول صراع عقبة وأبو المهاجر أيضا فقال: “.. وتوفي معاوية وعقبة بالشام، فاستعمله يزيد على إفريقية في هذه السنة (62 هجرية) وأرسله إليها، فوصل إلى القيروان مُجددا، وقبض أبا المُهاجر أميرها وأوثقه في الحديد..”، وتؤكد هذه الشواهد التاريخية أن الصراع كان سياسيا بحتا ضد سلطة كانت مرفوضة من كُل المسلمين وأن آكسل قد ثار ضد ملك أموي يُجمع المسلمون على تاريخه الأسود وهو الذي قتل الحسين بن علي وأهله في كربلاء واستباح المدينة المنورة ثلاثة أيام في واقعة “الحرّة” الشهيرة حين طرد أهل المدينة والي يزيد عليها، فأمر الأخير مسلم بن عقبة عليهم وانتهت بمقتل عدد كبير جدا من أهل المدينة من صحابة وتابعين، قبل أن يسير مسلم بن عقبة لحصار مكة وحرب عبد الله بن الزبير، حيث جاء في “الكامل”: “فلما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ونهبها شخص بمن معه نحو مكة يريد ابن الزبير ومن معه..”، ليموت قبل الوصول ويُكمل الحُصين بن النمير المسير ليصل الأمر إلى ضرب الكعبة بالمنجنيق وإحراقها سنة أربعة وستين للهجرة.

ووسط كل هذه الأحداث في الحجاز والعراق، يذكر ابن خلدون متحدثا حول ما كان يجري في شمال إفريقيا من استخفاف وإهانة تعمدها عقبة لـ آكسل عندما أسره تماما مثل الإهانة التي ألحقها بأبي المهاجر الدينار عندما أوثقه بالحديد، ويقول ابن خلدون في تاريخه: “..وكان عقبة في غزاته يستهين كسيلة ويستخف به وهو في اعتقاله، وأمره يوما بسلخ شاة بين يديه فدفعها إلى غلمانه، وأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه، وانتهره، فقام إليها أكسل مغضبا، وجعل كلما دس يده في الشاة يمسح بلحيته، والعرب يقولون: ما هذا يا بربري؟ فيقول: هذا جيد للشعر، فيقول لهم شيخ منهم: إن البربري يتوعدكم، وبلغ ذلك أبا المهاجر فنهى عقبة عنه وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألف جبابرة العرب، وأنت تعمد إلى رجل جبار في قومه بدار عزة قريب عهد بالشرك فتفسد قلبه، وأشار عليه بأن يوثق منه وخوفه فتكه، فتهاون عقبة بقوله”، ويؤكد المؤرخون أن أقصى حدود الإهانة عند البربر تلك التي تعمدها عقبة لـ آكسل عندما أمره بذبح الشاه للجنود العرب لتحقيره أمام قومه وهو العظيم فيهم.

هذه الأحداث التاريخية المذكورة في أمهات كتب التاريخ الإسلامي والتي تمثل صراعا سياسيا كبيرا في واحدة من أكثر فترات التاريخ الإسلامي إثارة للجدل، لا تختلف عن صراع الأمير الأمازيغي آكسل وعقبة بن نافع الفهري المرسل من يزيد، فرسالة الإسلام كانت قد بلغت مسامع الأمازيغ، فشُيدت المساجد لمن أسلموا، والمسير إليهم بجيش سنة 62 هجرية لا يُمكن وصفه بفتح إسلامي، بل يحمل في طياته صراعا لأجل الإمارة بين رجال السلطة الأموية، وهو ما يتأكد في رفض عقبة بن نافع إمارة أبي المُهاجر الدينار واصفا إياه بـ”عبد الأنصار”، حيث ذهب إلى معاوية بن أبي سفيان مشتكيا بعد عزله وقال مثلما جاء في “الطبقات الكُبرى” لابن سعد: “إني فتحت البلاد ودانت لي، وبنيت المنازل، وبنيت مسجد الجماعة، وسكنت الرحال، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي”، ومعرفة كل هذه الأحداث وحيثياتها سيمنع “زُناة التاريخ” وخاصة أشباه المؤرخين من استغلال بساطة المخيال الشعبي بإقحام مُتطرف للدين وتصوير الصراع على أنه حرب ضد الإسلام، بل إن هؤلاء العابثون بالتاريخ أقحموا “أفكارا دينية” حتى أثناء حديثهم عن حقبة ما قبل الميلاد للتأثير عن المتلقي البسيط غير المُلم بما جاء في كتب التاريخ، فوصل الأمر بمؤرخ مُدلس أن يقول إن “ماسينيسا وثني وكان ينبغي أن يكون تمثال العاصمة ليوغرطة” رغم أن كليهما عاش ومات قبل الميلاد، فكلمة وثني هنا لا تختلف عن أوصاف من شاكلة “مُرتد” وكافر لتبرير الحقد والعنصرية مع تأليب من يجهلون تاريخهم ضد كل من دافع عن هذه الأرض دون انبطاح أو قبولٍ للذل تحت أي مُسمى كان.

محمد بلقاسم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

يرجى تعطيل مانع الإعلانات.